يتوهم كثير من خبراء العلاقات الدولية ومخططى الاستراتيجيات أن الأمور تمضى معهم جامدة لا تتحرك وتظل فى قوالب ثابتة لا تتغير، بينما الأمر أصبح مختلفًا تمامًا عن ذلك الطرح، فنحن فى مواجهة عصر يتميز بالديناميكية فى التحالفات والحيوية فى التحركات وبالتالى لم تعد الاستراتيجية إستاتيكية كما كانت بل أصبحت كائنًا يتقدم ويتأخر ويعطى ويأخذ ويؤثر ويتأثر، فهل تستطيع قوة كبرى فى عصرنا الحالى أن تضع حدودًا ثابتة لتحركاتها؟ إن الإجابة بالنفى فالكل يدرك أننا فى عالم يجرى بلا توقف ويشهد تحولات سريعة فى أوقات قصيرة، وقد تتخذ دولة ما قرارًا معينًا وفقًا لاستراتيجية محددة ولا تستطيع تطبيق ذلك القرار أو حتى الجهر به، لأن القوالب الجامدة فى السياسات الطويلة المدى هى أمر نظرى بحت غير قابل للتطبيق على أرض الواقع، فالرؤية الشاملة لسياسات دولة معينة لا تسمح بوجود استراتيجيات تفتقد الحيوية أو تفتقر كياسة القرار وملاءمته للظروف المتغيرة، وصانع القرار أو المخطط الاستراتيجى لا يضع عبارات مقدسة أو أفكارًا غير قابلة للمناقشة، فلابد من المواءمة بين ما قرره المفكر الاستراتيجى أو صاحب القرار السياسى وبين مقتضيات الحال وتطورات الأحداث، إننى أقول ذلك وأنا أرى أن لدى العرب عمومًا خلطا دائما بين الخطوط العريضة والأهداف العامة فى جانب وبين السياسات المرحلية والقرارات المطلوبة فى جانب آخر، ولا أظن أن هناك من خرج عليها فى تاريخنا الحديث إلا اثنان أحدهما فى العهد الملكى والثانى فى العهد الجمهوري، ففى العهد الملكى تمثلت رؤية (عدلى يكن) بعد خروجه عن الوفد هو ورفاقه فى ضرورة اتباع سياسات مرنة وتفاوض مستمر مع الجانب البريطاني.. بينما كان (سعد زغلول) هو والأغلبية الكاسحة يرون أنه لا مفاوضات إلا بعد الجلاء وكان البعض يتساءل: إذا تم الجلاء فعلام التفاوض إذن؟ هى على كل حال مدارس فى الوطنية لا يقلل من قيمتها ولا يؤثر فيها اختلاف الرأى واجتهادات الرؤي، أما الثانى وبحق فهو أنور السادات تتفق معه أو تختلف إلا أنه امتلك القدرة على تقديم طرح غير تقليدى واتخذ موقفًا جديدًا فى ظل استراتيجية مرنة حيث آمن بأن 99% من أوراق حل المشكلة الفلسطينية فى يد الولايات المتحدة الأمريكية ومضى فى سياسات كامب ديفيد من منطلق وطنى قد لا يكون هو الأفضل بالضرورة قوميًا ولذلك فإن أنور السادات يمثل مدرسة غير تقليدية للسياسة والحكم بعد عام 1952.. وعلى الجانب الآخر وقف عبد الناصر فى شموخه المعتاد متمسكًا بمبادئه وأفكاره حتى لفظ أنفاسه الأخيرة واقفًا يدافع عما آمن به، والحقيقة أنه رغم اختلاف المدرستين - بين ناصر والسادات مثلما هى بين زغلول ويكن - فإن المفاضلة فى غير محلها فباب الاجتهاد مفتوح ولا يصادر المرء على شيء بما ألزم به نفسه وصنعه على عينه وكتبه بيديه ما دام لا يطعن فى الثوابت ولا يخرج على الأهداف النهائية والغايات التى يسعى إليها الجميع، إننى أقول ذلك وأطرح الملاحظات الآتية:
أولًا: إن أسلوبنا فى رفض خيارات الآخر والهجوم على كل توجه جديد هو برهان على العدوان الإنسانى بالدرجة الأولى وإغلاق تحكمى للأفق المفتوح وضربة قاصمة لباب الاجتهاد، الذى فتحه الإسلام وهو دين فما بالك بالاجتهاد فى السياسة وهى صناعة بشرية تختلف وفقًا للزمان والمكان! ومازلنا نتذكر الهجوم على عدلى يكن إلى حد رفع شعار (الاحتلال على يد سعد ولا الاستقلال على يد عدلي)، بينما تلقى الرئيس السادات هو الآخر انتقادات عربية ومصرية جاوزت الحدود وأحدثت قطيعة بين مصر وشقيقاتها العربيات لعقد كامل من الزمان، فهكذا نحن دائمًا بارعون فى تكفير الآخر، مسارعون إلى رفض اختيارات الغير، مغرمون بتسفيه كل جديد دون دراسة متأنية أو وعى حقيقي.
ثانيًا: إن الظروف متغيرة والأمور فى الحياة لا تستقر على حال ويجب ألا يحصر المرء نفسه فى حارة ضيقة وأمامه الشوارع الواسعة والميادين الكبيرة يتحرك فيها بمرونة ويلتقط من الأفكار العالمية والرؤى الجديدة ما يسمح بمراجعة استراتيجياته، وليس ذلك عبثًا أو تلاعبًا ولكنه جزء لا يتجزأ من فهمه للحياة وإدراكه لطبيعة الوجود، فالإنسان لا يقيد نفسه بما صنعه وهو فى النهاية سيد قراره ومنتج أفكاره والمستجيب دائمًا لما يدور حوله فى إطار أهدافه ومصالحه ورؤيته البعيدة لغاياته النهائية.
ثالثًا: إننا ينبغى أن نتوقف عن القسوة الزائدة فى انتقاد كل جديد والرفض الأعمى لما لا نتفق معه، وقديمًا قالوا (إن المرء عدو ما يجهله) فهو بطبيعته رافض للتغيير متمسك بالحاضر يشده حنين لا يتوقف نحو الماضي، والعرب ماضويون بالطبيعة يرددون أشعار ديوان الحماسة - صباح مساء - ولا يعيشون غالبًا حياة العصر كما هي، أما المصريون فلديهم حنين إلى اليوم السابق يتبكاون على الماضى ويشدون الرحال إليه فى عاطفة زائدة وشعور إنسانى دافق وفى كل عصر تباكى بعض المصريين على عهد سبقه فتلك صفة راسخة منذ العهد الفرعوني، وأنا أتذكر الآن ما كتبه ابن المقفع منذ أكثر من ألف عام تحت عنوان (فضل الأقدمين) وهو يتباكى على الفضيلة التى غابت، والمروءة التى اختفت، والأخلاق الحميدة التى اندثرت، والبشر المحترم الذى لم يعد له وجود.
إننى أريد أن أقول بإيجاز إن الحياة متجددة، والأفكار متدفقة، والمرونة الاستراتيجية ليست نقيصة ولا عيبًا ولا تراجعًا ولكنها مراجعة أمينة للأحداث والمواقف والمتغيرات حولنا والتطورات التى تحيط بنا.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الأهرام العدد 47734
تاريخ النشر: 15 أغسطس 2017
رابط المقال: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/608732.aspx