يبدو أن واحدة من خطايانا فى مراحل الاندفاع نحو التنمية الشاملة أننا نقوم بالتركيز على الشكل دون المضمون مع التسليم منذ البداية أن الشكل جزء من المضمون أيضًا، ولكن الاقتصار عليه والتركيز على إتمامه دون سواه يجعلنا معنيين بالبناء المؤسسى دون الإطار الفلسفي، إذ أن آلية التنمية الناجحة ذات الإنجازات الكبيرة تقوم على ركيزتين هما (الهارد وير) و(السوفت وير) تمامًا كما هو الأمر بالنسبة لجهاز (الكمبيوتر)، ومن الواضح دائمًا أننا ننجح فى تشييد الأبنية مع التميز فى الإعمار المادي، ولكننا عندما نبدأ مراحل التشغيل فقد يختلف الأمر لأن المضمون والجوهر هما الأصل فى التحرك إلى الأمام، فلقد عايشت تجاربنا السابقة فى إنفاق مئات الملايين على الأبنية خصوصًا المدارس والمستشفيات ولكن عندما نقترب منها فسوف ندرك أن هناك مكاتب فخمة وربما قاعات كبيرة ولكن العملية التعليمية الصحيحة غائبة أو أن المسار العلاجى ضعيف، ولقد عشت فى الهند سنوات ورأيت المبانى المتواضعة والتشغيل المتميز مثلما هو الأمر فى المركز الطبى الكبير فى العاصمة نيودلهي، حيث لا تجد بذخًا ولا مبانى فاخرة ولا حجرات رخامية ولكنك تفاجأ بخدمة طبية على مستوى رفيع يضارع أرقى المستشفيات فى أوروبا، ولقد زرت الهند عام 2003 بعد عشرين عامًا من انتهاء خدمتى فيها ولقيت ترحيبًا كبيرًا ورتب لى زميلى سفيرنا فى نيودلهى حينذاك د. خير الدين عبد اللطيف محاضرة فى المركز القومى للدراسات الاستراتيجية، وقد لفت نظرى بشدة تواضع المكان مع نظافته وحسن تنظيمه، ولكن عندما بدأنا الحديث واستمر الحوار أدركت عظمة المضمون الهندى الذى يعتمد على الجوهر الحقيقى والخبرة الرصينة، فهم يدركون بحق أن البناء المؤسسى وحده لا يكفى وأن الفيصل يكون بالإطار الفلسفى الذى تتم من خلاله التنمية الفكرية والثقافية وخدمة التعليم والصحة، فضلًا عن البحث العلمى الذى تعتمد عليه الدول فى الدخول إلى بوابة العصر الحديث وإجراء نقلة نوعية فى جميع الجوانب من حياة الشعوب، ولعلى أطرح هنا بعض المحاور التى تعيننا على فهم ما نذهب إليه:
أولًا: مغرمون نحن بالدعاية للشكل والاستغراق فى ترديد شعاراته دون التطرق الحقيقى للمضمون، فنحن دائمًا نطرح الأفكار الكبيرة والشعارات الضخمة ولكننا نقف عند ذلك الحد، فالحديث عن مصر النووية بدءًا من أيام عبد الناصر ووزيره صلاح هدايت، ومصر دولة فضاء بدأ ذلك الشعار فى عصر الرئيس الراحل عبد الناصر، أيضًا وكان من نتائجه إطلاق الصاروخين القاهر والظافر رغم فشل التجربة حينذاك، أما استصلاح الأراضى والخروج من الوادى الضيق والدلتا المزدحمة فقد طرحنا شعارات تحدثت كثيرًا عن الثورة الخضراء وزراعة الصحراء وانتهى الأمر بمشروع مديرية التحرير وبعض البقاع على خريطة الجمهورية دون أن نصل إلى مستوى الهدف الذى من أجله جرى ذلك الطرح، ثم تحدثنا بعد ذلك عن ضرورة نسف الروتين وتحقيق ثورة إدارية حقيقية ولكن ذلك لم يحدث أيضًا لأنه ارتطم بالأجيال الجديدة ممن يتطلعون إلى الوظائف الأميرية بغض النظر عن أنهم يمثلون بطالة مقنعة تتحول إلى عبء كبير على الدولة والمجتمع معًا.
ثانيًا: أتذكر أن زارنا فى نيودلهى فى عام 1982 د. محمد حسن الزيات - وهو وزير خارجية سابق وزوج ابنة عميد الأدب العربي- وقد زار الهند التى كان سفيرًا فيها ذات يوم بوصفه رئيسًا لجمعية الصداقة المصرية الهندية، وقد أتاحت لى ظروف العمل وقتها أن أرافقه طوال مدة الزيارة وبعدما عدت إلى القاهرة أصبحت نائبًا له فى رئاسة تلك الجمعية، والذى يهمنى أن ذلك الوزير المثقف قد التقى بعدد من الدبلوماسيين فى السفارة وتحدث معنا عن إجابة السؤال الملح: لماذا تقدم الهنود وتوقف المصريون؟ ويومها أجبته بشكل قاطع أن السبب يكمن فى أن الهنود لم يتوقفوا أبدًا عن مسيرة الإصلاح وتحسين الأوضاع فى بلادهم، فضلًا عن أنهم يتميزون بميزتين، أولاهما الجدية فى العمل والاستمرار فى أدائه على وتيرة منتظمة دون تراجع أو تقاعس والثانية أن الهنود يتميزون أيضًا باستمرار قوة الدفع لما يقومون به دون توقف رغم ظروفهم الصعبة وحياتهم التى تحتاج دائمًا إلى بذل الجهد وإعمال العقل والإيمان بالتفوق العلمى والتقدم التكنولوجي، وقد كانت جلستنا مع د.الزيات فى العاصمة الهندية بمثابة ناقوس يحذر من تراجعنا المنتظر.
ثالثًا: إن المضمون الفلسفى والبناء الفكرى يتحكمان معًا فى المؤسسات والهيئات والوزارات حتى أصبحت مخرجات أى عمل لا تتوقف عند الهيكل ولا تتجمد نتيجة الارتياح للشكل دون المضمون، فالجوهر مهم فى كل حياة ولابد من تفعيله حتى يكتمل للمؤسسة شكلها الحقيقى اذ أنه من الوهم أن يتصور البعض أن الديكورات تكفى وحدها عند إزاحة الستار بل لابد من مضمون فاعل يؤكد قيمة العمل ويدعم معناه. إننى أريد أن أقول وبكل وضوح إن غرامنا بالشكل على حساب المضمون هو جناية عليهما معًا وأنه لابد لنا أن ندرك أهمية التلازم بينهما، مؤكدًا أننى لا أرفض الشكل ولكننى أيضًا أرى الأولوية للمضمون، فلقد تعلمت ذلك الدرس من حياتى فى الهند وأدركت قيمة الجوهر ولو على حساب المظهر .. إن الحياة تقوم على الدعامتين معًا فهما جناحان تحلق بهما الدول ولا تستغنى بأحدهما عن الآخر، فالحركات النهضوية والمحاولات الإصلاحية اعتمدت جميعها على تكامل العنصرين الشكل والمضمون، أو لنقلها بلغة أكثر علمية إن الإطار الفلسفى هو جوهر البناء المؤسسى.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47741
تاريخ النشر: 22 اغسطس 2017
رابط المقال: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/609833.aspx