كانت المدرسة الابتدائيَّة فى قرية مجاورة لتفتيش «المغازى باشا»، الذى أمتُّ له بصلة قرابة مباشرة، فكان علىَّ يوميًّا أن أذهب مع زملائى أبناء الموظفين إلى مدرسة «أريمون» الابتدائيَّة على مقربة من مدينة المحمودية، المركز الذى ننتسب إليه، وكان الانتقال عمليةً شاقَّةً فى سيارة خاصَّة للطلبة، ثم نُقِلتُ بعد ذلك أنا وأخى الذى يكبرنى بعدة أعوام إلى مدينة دمنهور، حيث فرصة التَّعليم أكبر، فالتحقتُ بمدرسة أبوعبدالله الابتدائيَّة فى نفس الحى الذى نشأ فيه البابا تواضروس الثانى، وكُنَّا نذهب إلى الأسرة كل يوم خميس ثم نعود إلى المدينة الكبيرة يوم الجمعة، وكم كان صعبًا علىَّ دائمًا مساء الجمعة حيث سأنتظر أسبوعًا كاملاً بعيدًا عن أمى وأبى، ولقد كرهت الدراسة، وكنتُ دائمًا أقول: «لعن الله من أدخل المدارس فى بلادنا»، إلى أن انتقلتُ إلى المدرسة الإعداديَّة، وجاء المُدرس فى نهاية امتحانات الفترة الأولى لكى يُوزِّع شهادات النَّتيجة، وقال: «سأناديكم بالترتيب العكسى بحيث يكون الأول هو آخر من يُنادى»، وظلَّ ينادى الأسماء لمدة عشر دقائق أو يزيد، ومع كلِّ لحظة يزداد أملى فى أن أكون فى المقدمة إلى أن وصل إلى نهاية الشهادات، واحتفظ بواحدة فى يده، وقال: «أمَّا الأول فهو ….»، وذكر اسمى ونادانى واحتضننى أمام الطلاب، وشعرتُ وقتها بلحظة تميُّز ظلَّت تطاردنى فى كل مراحل الدراسة، فكنتُ الأول دائمًا حتى الثانوية العامة، كما كنتُ الأول على مديرية البحيرة التعليمية فى الشهادة الإعداديَّة عام 1958.
وفى المرحلة الجامعيَّة لم أتجه إلى الإسكندرية، المدينة الأقرب إلينا، لأننى رأيتُ أن ألتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسيَّة، ولم يكن لها فروع خارج جامعة القاهرة، ووازنتُ فى المرحلة الجامعيَّة بين التميُّز الدراسى المعقول والنشاط الاجتماعى والثقافى والسياسى، فكنتُ رئيسًا لاتحاد الطلاب أثناء دراستى فى الكلية، واختلطتُ بالطلاب العرب من كل الأقطار، حيث كانوا يمثلون نسبةً عاليةً من الذين يدرسون فى كلية الاقتصاد حينذاك، باعتبارها كليةً جديدةً عليها إقبال شديد من المصريين والعرب، ولقد تميزت تلك المرحلة بأنها كانت البناء الحقيقى لشخصيتى، فيها تعرَّفتُ على الحياة العملية وتواصلتُ مع الأوساط الثقافية، وعايشتُ المناسبات الوطنيَّة ثم انخرطتُ بعد ذلك فى صفوف منظمة الشباب، ووصلتُ فيها إلى أن أكون مسئولاً عن تثقيف شباب العاصمة المصريَّة حتى عُينتُ فى وزارة الخارجية عام 1966، والتحقتُ بالمعهد الدبلوماسى وحصلتُ على الدرجة الأكبر بين أقرانى فى الدِّراسات السِّياسيَّة والعلاقات الدولية، وهناك بدأت معرفتى بالرَّاحل أسامة الباز الذى اقتربتُ منه بعد ذلك لما يقرب من نصف قرن، وقد كان نموذجًا فى البساطة والتَّواضع والعُمق فى التَّفكير والقدرة على كِتمان الأسرار، رحمه الله.
أعود الآن إلى مسألة التَّفوُّق الدِّراسى لكى أقول إنه ليس شرطًا للنَّجاح فى الحياة العمليَّة؛ فأنا أعرف من بين زملائى مَنْ لم يكن لهم حَظٌّ من التَّميُّز فى التَّعليم الجامعى، وإذا بهم يتبوَّأون بعد ذلك أعلى المراكز وأرفع الدَّرجات وينجحون نجاحًا باهرًا فى حياتهم العمليَّة، فالتَّفوُّق الدِّراسى لا يعدو أن يكون نوعًا من الكَرِّ والفَرِّ بين صفحات الكُتب وتحصيل المادة العلميَّة بلا وعى أحيانًا، ولكن الحياة العمليَّة تحتاج إلى مهارات شخصيَّة وتميُّز سلوكى، وقد يصل الأمر إلى حَدِّ الحاجة إلى كاريزما ذاتيَّة، ولنتذكر أن وينستن تشرشل كان طالبًا بليدًا ثم أصبح أهم رئيس وزراء فى تاريخ بريطانيا، ونال جائزة نوبل فى الأدب، وقِس على ذلك مئات الحالات من الركود الدِّراسى التى تحوَّلت إلى تفوُّق مهنى وتميُّز فى المُستقبل على نحو غير مُتوقع، وليس يعنى ذلك أننا نطالب بألا يتفوق الطُّلاب وألا يحرصوا على تحصيل المعارف واستذكار الدروس، ولكن الذى نعنيه هو الفَصْل الشَّرطى بين التَّفوُّق الدِّراسى والتَّفوُّق فى الحياة العمليَّة، وإن كان التَّلازم بينهما أحيانًا قائمًا، ونراه بين أساتذة الجامعات والذين يتبوَّأون مواقع تتحكم فيها شهادات السَّنوات النِّهائيَّة فى التَّعليم الجامعى، وليكن معلومًا أن التَّفوُّق الدِّراسى ليس بالضَّرورة إضافة إلى المستوى الأكاديمى فى الدولة أو البحث العلمى فى مجالاته المختلفة؛ فقد يتوقف ذلك التَّفوُّق عند حفظ مادة علميَّة دون استفادة عمليَّة.. إننى أقول ذلك وأنا أدرك جيدًا أن كلَّ مُجتهد يبذل جهدًا فى دراسته سوف يكون فى الغالب مُجتهدًا فى حياته العمليَّة أيضًا، فالتَّفوُّق الدِّراسى يشير إلى التَّعوُّد على بذل المجهود، كما أن الاهتمام بالمادة العلميَّة أمرٌ يبقى مع صاحبه فى رحلة العُمر داعمًا ومؤكدًا وحافزًا.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 264
تاريخ النشر: 7 فبراير 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%91%d9%8e%d9%81%d9%88%d9%91%d9%8f%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%91%d9%90%d8%b1%d8%a7%d8%b3%d9%89/