إن إعادة قراءة تاريخ مصر الحديث من منظور ما يجرى من أحداث راهنة تعتبر كاشفة لكثير مما يدور حولنا ومجيبة على بعض التساؤلات المطروحة, وفى مقدمتها لماذا استهداف مصر ومصر تحديدًا؟ فالتاريخ القريب يوضح لنا أن مصر دولة عمدة فى الشرق الأوسط, ومن الطبيعى أن يكون هناك شعور بالاهتمام بها ومحاولة السيطرة على سياساتها والضغط بكل الطرق لتحجيم دورها خصوصًا أنه ليس المطلوب لها السقوط الكامل ولكن أيضًا من غير المقبول لها التحليق إلى أعلى بشكل ملحوظ لأن ذلك يعنى لدى معظم القوى الدولية والإقليمية أن مصر سوف تمد ذراعيها شرقًا وغربًا وجنوبًا حيث يلوح شبح محمد على ونفوذه العسكرى والسياسى فى إمبراطورية مصرية لم يتم انكماشها إلا بتكتل أوروبى عثمانى تجسد فى بنود اتفاقية لندن عام 1840، كما قد يتراءى للبعض أحيانًا خيالات وهمية تؤدى إلى تجدد المخاوف من عصر عبد الناصر عندما أطلق دعوته القومية فتحركت الوديان والسهول وملأت صيحاته الدنيا وشغلت الناس لأنها كانت حركة تحررية ارتبطت بمرحلة تصفية الاستعمار وتأكيد حرية الشعوب واستقلالها بل إن شبح عبد الناصر يطارد الكثيرين حتى إن البعض حاول أن يصور وصول السيسى إلى السلطة وكأنه إعادة لسيناريو عام 1952، والواقع أن الأمر مختلف عن ذلك جد الاختلاف ومن غير المنطقى ولا العادل أن يكون هناك تحليل بهذه الطريقة فلكل عصر ظروفه ورموزه وسياساته, ومن العبث تقييم فترات تاريخية قياسًا على الحاضر كما أنه من العسير قبول حقيقة أن التاريخ يعيد نفسه بشكل متطابق، فالدنيا تتغير والأفكار تتطور والبشر يرحلون، والذى يهمنى فى هذه السطور هو أن أعطى للأسرة العلوية مقامها الحقيقى فى التاريخ الحديث للمنطقة وكيف أن أيلولة العرش العثمانى كان يمكن أن تؤول إلى أحفاد محمد على وتصبح القاهرة هى مقر الخلافة، ولست هنا بصدد تقييم ذلك سلبًا أو إيجابًا، ولكن من المؤكد أن مسار الأحداث كان قد تغير رغم أن مقاومة فكرية كاسحة بدأت على امتداد العالم الإسلامى من الهند إلى لندن تعقد مؤتمرات حول موضوع الخلافة حيث كان الصراع المستتر قائمًا بين (الشريف حسين) وأولاده وآل سعود على الجانب الآخر، بينما كادت الملكية المصرية تحصد الأمر لو أن الأحداث أخذت مجراها الطبيعي، والذى يتابع (مراسلات مكماهون) من القاهرة مع الشريف حسين سوف يكتشف أن البريطانيين كانت لديهم صياغات متعددة ولكنهم كانوا يبحثون بين كل الخيارات عن أفضلها لهم هى وحلفاؤها الغربيون بما فى ذلك خيار إسقاط فكرة الخلافة والتخلص منها إلى الأبد على اعتبار أن (سايكس بيكو) قد أصبحت بديلًا للخلافة العثمانية الواحدة، كما أن إرهاصات ميلاد الدولة العبرية كانت هى الأخرى عاملًا فعالًا فى تقزيم فكرة الخلافة على اعتبار أن زوالها يفتح الباب لإيجاد وطن قومى لليهود فى فلسطين وهو ما بشر به وعد وزير الخارجية البريطانية (بلفور) فى 2 نوفمبر عام 1917، أضف إلى ذلك كله عامل الجدل حول مصداقية الخلافة ومدى قبول المسلمين لها ولعلى اعتبر كتاب الشيخ على عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) إحدى الضربات القاصمة التى وجهها عالم أزهرى لطموحات فؤاد الأول فى وراثة العرش العثماني، وهكذا نجد أن اقتراب أسرة محمد على من كرسى الخلافة كان أمرًا مطروحًا ولكن الظروف الدولية والإقليمية بل المصرية لم تكن مواتية، وأضيف إلى ذلك عاملًا آخر وهو ميلاد جماعة الإخوان المسلمين على يد الشيخ حسن البنا فى مدينة الإسماعيلية التى كانت تتركز بعض مظاهر الوجود الأجنبى فيها عام 1928، ولابد أن ندرك هنا أنه كانت لدى أسرة محمد على مقومات تسمح بوراثة الخلافة الإسلامية ولكن الخوف من الدور المصرى والقلق من شبح دولة محمد على كانا حائط سد يحولان دون ذلك، ويهمنى هنا أن أسجل الملاحظات الثلاث التالية:
أولًا: إن أسرة محمد على لم تنل حظها من الدراسة رغم كثرة ما كتب عنها وما سجله المؤرخون حولها لأن الذين كتبوا عنها كانوا معاصرين لأحداثها وحكمتهم أهواء فيما يكتبون خصوصًا أن المادة المتاحة لم تكن متوافرة فى أيديهم ولكن الذى يغوص فى أعماق الوثائق البريطانية سوف يكتشف أن هناك وجهات نظر أخرى كانت تعتمد على معلومات غير معلنة فى وقتها، ولذلك فإننى أهيب بأساتذة التاريخ الحديث ونظم الحكومات فى العلوم السياسية تمحيص تلك الوثائق للخروج برؤى مختلفة عما عشنا عليه لعدة عقود.
ثانيًا: لم تكن أسرة محمد على بذلك السوء الذى صورته بعض الكتابات بعد عام 1952، كذلك لم تكن بذلك البريق الذى تحمس له البعض الآخر نكاية فى العصر الناصرى وثورة 23 يوليو بما لها وما عليها، وأنا أطالب هنا مرة أخرى بضرورة وجود كتب وثائقية عن حكام مصر فى العصر الحديث يجرى إعدادها بموضوعية كاملة وفى حياد تاريخى لا يخضع لمؤثرات غير علمية حتى تكون لنا ذاكرة وطنية صحيحة يمكن أن نعتمد عليها وأن ننطلق منها.
ثالثًا: لقد آن الأوان للكشف عن كواليس الحياة السياسية فى بعض المراحل حتى نرد الاعتبار لبعض الرموز ونسحب شيئًا من المغالاة التى استغرقنا فيها مديحًا فى البعض الآخر ولو تأملنا ما يجرى حولنا الآن لوجدنا أن مصر قد عرفت مثيلًا له من قبل، ولكنها تظل دائمًا واقفة كالنخل الباسقات.
تحية لكل حاكم وطنى فى تاريخ هذا البلد الذى علم الدنيا وصنع الحضارات وأطلق نفير التنوير منذ عدة قرون.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47762
تاريخ النشر: 12 سبتمبر 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/612980.aspx