لقد تكررت أحاديثنا عبر العقود الأخيرة عن تنظيم الأسرة وضبط النسل فى محاولة للوصول إلى الحجم الأمثل للسكان، كما عبر عنه علماء الاجتماع المعنيون بنظرية السكان وفى مقدمتهم (مالتوس) و(دركايم) رغم تفاوت نظرتيهما بين التشاؤم والتفاؤل، وأنا أزعم أن مواجهة الانفجار السكانى فى مصر قد بدأت فى العصر الناصرى واستمرت بعد ذلك فى عهدى السادات ومبارك إلى أن جاءت ثورة 25 يناير فارتفعت معدلات المواليد وبدأت نسبة الزيادة السنوية تتزايد وتطل علينا من شاشة فى نهاية طريق صلاح سالم وبداية شارع العروبة بالأرقام الإلكترونية، التى يتحفنا بها رئيس الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء اللواء أبو بكر الجندي، والذى يمثل نموذجًا متفردًا للتفانى فى العمل والإخلاص للغاية التى يعمل من أجلها، وأنا أستأذن فى أن أعوم ضد التيار وأزعم أن الزيادة السكانية يمكن أن تكون نعمة مثلما هى تبدو لنا نقمة، لأن تحويل الكم العددى إلى كيف منتج يمكن أن يكون سبيلًا لبناء الدولة العصرية الحديثة ولعل لنا فى دولتى الصين والهند عبرة من خلال ذلك النجاح النسبى الذى تحقق لدى كل منهما فى ميدان الاستفادة من الانفجار السكانى الهائل لديهما، ولنا هنا عدة ملاحظات:
أولًا: إننى أظن ـ وليس كل الظن إثمًا ـ أن اقتناعنا بتحجيم عدد المواليد أمام عدد الوفيات هو أمر نردده فى نصف القرن الأخير دون أن تكون لدينا إرادة وطنية جادة لتحقيق ذلك بل اعتبرنا دائمًا أن قضايا السكان هى قضايا ترفيه ولا تمثل هاجسًا حقيقيًا لدى الدولة والمواطن، ولعلى أهمس هنا مؤكدًا أننا قد استخدمنا المشكلة السكانية كشماعة لتبرير الإخفاقات الاقتصادية وابتلاع معدلات النمو التى حققتها الخطط المختلفة فى ظل النظم المتعاقبة بل زدنا على ذلك أن تصورنا أن هناك موانع دينية تحول دون تنظيم الأسرة على اعتبار أنه ما من دابة فى الأرض إلا وعلى الله رزقها، كما أن الاستسلام التقليدى للحجم الموروث للأسرة قد أسهم هو الآخر فى التعود على المشكلة باعتبارها حقيقة تاريخية.
ثانيًا: يتمثل البعد المظلم للزيادة السكانية فى انخفاض النوعية مع الزيادة الكمية، وعلى سبيل المثال فإن الرئيس الأسبق مبارك تسلم البلاد وهى تزيد قليلًا على الأربعين مليونًا وغادر الحكم بعد ثلاثين عامًا وهى تتجاوز الثمانين مليونًا، ويكمن جوهر المشكلة لا فى زيادة الملايين الأربعين ولكن فى أن هذه الملايين الجديدة أقل فى المستوى الاجتماعى من سابقاتها، كما أنها تتجه فى مسار متدهور لا يمكن إنكاره، فالأسر التى نظمت نسلها وضبطت حجمها هى فى الغالب تلك الأقدر على تعليم أبنائها وبناتها ورعايتهم صحيًا ونفسيًا، أما الذين تركوا الحبل على الغارب فهم أولئك الذين لا يهتمون بتعليم أطفالهم ولا بضمان جودة الحياة لديهم أو حتى الحد الأدنى من الخدمة العلاجية لهم فكانت النتيجة مئات الآلاف من أطفال الشوارع الذين يتحولون تلقائيًا بعد سنوات قليلة إلى مئات الآلاف من محترفى البلطجة والإجرام.
ثالثًا: لقد توهمنا عبر السنين - ولم يكن ذلك وهمًا بالكامل - أن الحجم السكانى لـمصر هو مصدر مكانتها الإقليمية ودورها القومى واعتبرنا أن عدد سكان مصر هو واحد من مقومات شخصيتها المتميزة ووجودها المتفرد وربما يكون ذلك صحيحًا ولكنه يكون كذلك فى ظل التميز الكيفى لا مجرد التضخم الكمي، ومن هذه النقطة بالذات أشعر أحيانًا بأن الإحساس الداخلى لدى المصريين يُعظِم من هذا المفهوم ويجعل الزيادة السكانية مصدرًا للقوة ومبعثًا للثقة خصوصًا عندما يقارن البعض بين حجم مصر ودول أخرى لا يتجاوز عدد سكانها بضعة ملايين من البشر أو ما يقل عن ذلك أحيانًا!
رابعًا: إن النظرة المصرية للمشكلة السكانية وأساليب علاجها تبدو أُحادية إلى حد كبير وتقف فقط عند مجرد التحكم فى معدل زيادة المواليد سنويًا وتقليل الفجوة بينها وبين معدلات الوفيات فى نفس الفترة، والأمر فى ذلك كما قلنا مرارًا يتجاوز ذلك كثيرًا إذ يمكن مواجهة الزيادة العددية بمزيد من البرامج التدريبية وإعادة تأهيل الشباب وفقًا لاحتياجات التنمية إذ إن تجسير الفجوة بين المواليد والوفيات هو حل تقليدى جامد لا يتفهم أن علاج المشكلة السكانية له أدوات أخرى فى مقدمتها رفع كفاءة العنصر البشرى لكى يكون منتجًا من الناحية الاقتصادية مؤثرًا من الناحية السياسية، مشرفًا على الساحتين الدولية والإقليمية.
خامسًا: إننى أطالب وبإلحاح بضرورة إعادة النظر فى التوزيع الديموجرافى إذ لا يمكن أن نتصور أن يعيش من يقتربون من المائة مليون على ستة فى المائة أو ما يزيد قليلًا من الرقعة الجغرافية التى تضمها حدود الدولة، فالخروج إلى الصحراء أصبح ضرورة حتمية، واستصلاح الأراضى الجديدة أضحى ألتزامًا وطنيًا، ولم يعد فى مقدورنا ذلك الانكفاء والتركز فى دلتا النهر وحول الشريط النيلى فى الصعيد، بل أصبحت المدن الجديدة فى ظل تطبيق شعارات الثورة الخضراء أمرًا لازمًا نسعى جميعًا إلى تحقيقه والدفع بملايين الشباب لارتياد أرضهم الطيبة فى كل اتجاه، وأنا أدرك هنا أن المسألة ليست بهذه السهولة وأن ذلك الانتشار الذى نتحدث عنه يحتاج إلى إمكانات مادية وتقنية ولكن تقف وراء ذلك دائمًا إرادة العنصر البشرى الخلاق والقادر على اجتياز الصعاب وتشييد دعائم الدولة العصرية الحديثة ـــ كما فعل غيرنا ـــ والتى تجمع بين التنمية والديمقراطية، بين إرادة الوطن وحقوق المواطن، بين شعبية الحكم وكفالة العدالة الاجتماعية وتضييق الهوة بين الطبقات.
هذه قراءة مبدئية لمشكلة مزمنة تحتاج إلى طرح مختلف ورؤية جديدة.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47769
تاريخ النشر: 19 سبتمبر 2017
رابط المقال: http://www.ahram.org.eg/News/202393/4/614068/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D9%81%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%A3%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%83%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9.aspx