دعانى الفقيه القانونى الكبير د.محمد نور فرحات عبر صفحته على (الفيس بوك) أن أدلى بتعليقاتى على بعض ما جاء فى مذكرات السيد عمرو موسى بعنوان (كتابيه) فرأيت أن أكتب الآن بشكل عام دون الدخول فى التفاصيل التى قد نتفق حولها أو نختلف، وكان صاحب المذكرات قد دعانى لكى ألقى كلمة فى يوم توقيع كتابه الذى حرك المياه الراكدة وأثار لغطًا شديدًا فى الواقع السياسى الراهن، وقد عبرت فى كلمتى بإيجاز عن تاريخ علاقتى به واكتشافى المبكر لقدراته المتميزة وألمحت أيضًا إلى تخليه عنى فى بعض المواقف وأردفت مباشرة أن موضوعيتى تجعلنى أؤكد أنه واحد من أكفأ من شهدت المدرسة الدبلوماسية المصرية، ولم تخل كلمتى من مداعبات تعودت عليها معه صديقًا لى قبل أن أكون مرءوسًا له، واضطررت لأن أبرح المكان لارتباطى بحلقة برنامجى الأسبوعى مع الإعلامى (شريف عامر) وأبلغنى بعض من حضروا أنه قد تندر على أمام الجميع ـــ وفى غيابى بأننى ذهبت إلى التليفزيون لأنه يدفع لى أما توقيع الكتاب فلا عائد منه، وأنا أوافقه على أهمية النقود فى حياتى ولكننى أزعم أننى تلميذ صغير فى مدرسته فى هذا الشأن تحديدًا، وقد عاتبته تليفونيًا ولكنه شرح لى أن ذلك قد جاء فى إطار لطيف يقصد به المداعبة وليس التجريح، ولقد اشتدت الحملة ضد ما كتبه، وقد اخترت فى هذه المناسبة أن أدافع عن شخصين أحدهما زعيم أمة والثانى أستاذ لأجيال من الدبلوماسيين من بينهم عدد من وزراء الخارجية الذين تعاقبوا على المقعد بدءًا من السيد عمرو موسى ذاته، أما الزعيم فتاريخه يدافع عنه، قل فى عبد الناصر ما شئت سياسيًا ولكن انتزاعه من حياته البسيطة التى يعرفها الجميع وأدركها أنا شخصيًا بحكم صلتى بأسرته فذلك اختيار غير موفق على الإطلاق، يمكن أن تناقش فى عبد الناصر قضايا الديمقراطية أو الاشتراكية، وتتفق مع الإصلاح الزراعى أو تختلف، وتتحمس لتأميم القناة أو تتحفظ ولكن الحديث عن طعام كان يأتيه من (برن) عاصمة (سويسرا) فذلك أمر مختلف، وقد قال لى دبلوماسى مخضرم: إذا كان السيد فتحى الديب السفير حينذاك فى العاصمة السويسرية يرسل طعامًا لمؤسسة الرئاسة بمواصفات معينة فمن أدراك أنه لعبد الناصر شخصيًا وقد كان زعيمًا زاهدًا ارتبط بالفقراء ودافع عن العدالة الاجتماعية، ولعلى أذكر هنا قصة حكاها لى الراحل اللواء سامح سيف اليزل العضو الأسبق فى مجلس النواب والشخصية التى برزت على الساحة السياسية فى العامين الأخيرين قبل رحيله، لقد قال لى سامح رحمه الله انه عمل بعد نكسة يونيو عام 1967 فى حراسة الرئيس الراحل، وجاء دوره لكى يكون مناوبًا فى إحدى الليالى فدخل مع الرئيس قاعة السينما الصغيرة التى كان يمارس فيها هواية مشاهدة بعض الأفلام وقد التفت إليه الرئيس وقال له: قم بتشغيل السينما، فضغط سامح على الزر ليشاهد الرئيس لمدة نصف ساعة ثم قال له: اغلق مفتاح التشغيل واطلب العشاء، ودخل السفرجى الهرم بتروللى يترنح نتيجة عرج إحدى عجلاته ووضع الطعام أمام الرئيس وكان من الجبنة البيضاء والخبز الجاف فسأل الرئيس (سامح): هل تناولت عشاءك يا حضرة الضابط؟ فقال له: نعم يا سيادة الرئيس، فرد عليه عبد الناصر: لا لم يحدث ذلك، فقال له: نعم لم أتناول عشائى يا سيادة الرئيس! فقال له: اطلب العشاء لك، وظل الرئيس الراحل صامتًا أمام طعامه لا يمد يده إليه إلى أن جيء لسامح بطعام مشابه لما يأكله الرئيس عندئذ فقط بدأ الرئيس فى تناول وجبته، وهى لم تكن من سويسرا بالطبع على الإطلاق ولكنها جبنة بيضاء من إحدى قرى محافظة الجيزة، فالرجل عاش فقيرًا وقام بالاقتراض على معاشه فى إحدى المناسبات الخاصة بأسرته، هذا هو عبد الناصر الذى عرفناه وهو ما أدركته الجماهير بحسها الطبيعى ومشاعرها البسيطة، وعندما جرت المصاهرة بين أسرة السيد عمرو موسى وأسرة ابنة الرئيس الراحل عبد الناصر منذ سنوات اتصلت به يومها وقلت له: إن هذه المصاهرة هى اعتذار تاريخى متبادل بينك وبين ذلك القائد العظيم، ولابد أن أذكر هنا أنه فى إحدى أمسيات أغسطس عام 1968 كنت الملحق الدبلوماسى المناوب فى إدارة غرب أوروبا ودفعنى الفضول إلى قراءة بعض الملفات فى مكتب السفير الراحل جمال منصور حيث مقر المناوبة وإذا بوثيقة تقع فى يدى عن تنظيم (الطليعة الاشتراكية) ومجموعتها فى وزارة الخارجية ومن بين الأسماء السيد عمرو موسى الدبلوماسى الشاب، ولقد ذكرت له ذلك بعد رحيل عبد الناصر بسنوات ولم ينكر الرجل تلك الحقيقة وإن كانت انتقاداته لسياسات الجد الأكبر لأحفاده دائمة، رافضًا لسياسته مصابًا بتحول واضح حل بالكثيرين بعد نكسة يونيو المشئومة، ولذلك فإننى كنت أتمنى على الصديق عمرو موسى أن يوجه انتقاداته للرئيس الراحل فى قضايا موضوعية وليس فى مسألة هامشية يحيطها الشك من كل اتجاه ولا تتمشى مع شخصية الرئيس عبد الناصر وتاريخه المعروف، أما الشخصية الثانية التى سوف أضعها فى إطارها الصحيح وأرد إليها بعض الاعتبار فأعنى بها د.أسامة الباز معلمنا وأستاذنا وسوف أتناول ذلك فى المقال القادم ثم أكمل فى مقال ثالث كشاهد عيان لطبيعة علاقة السيد عمرو موسى بالرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك الذى أعطاه من الصلاحيات وحرية الحركة ما لم يعطه لسواه .. وللحديث بقية.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47776
تاريخ النشر: 26 سبتمبر 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/615069.aspx