قرن كامل مضى على صدور (وعد بلفور) وزير خارجية بريطانيا الذى عبر فيه عن الاستجابة لآمال اليهود فى إقامة وطن لهم فى فلسطين، ويعتبر ذلك الوعد أهم وثائق الحركة الصهيونية وأكبر مكاسبها فى الربع الأول من القرن الماضى، وذلك لسبب بسيط وهو أن بريطانيا لم تكن دولة عادية بالنسبة لفلسطين إذ إنها صاحبة الانتداب عليها وعندما تعطى وعدًا فإنها سوف تكون فى الغالب قادرة على تنفيذه خصوصًا وأنها كانت تزمع على إنهاء الانتداب ذات يوم تاركة فلسطين ممزقة بين العرب واليهود، ولا يخفى على أحد أن ذلك الوعد جاء فى غضون الحرب العالمية الأولى وفى ظل موجة تعاطف مع اليهود خصوصًا أن المؤتمر الصهيونى الأول كان قد انعقد بمدينة (بازل) فى سويسرًا بعد سلسلة من الجهود الصهيونية فى أروقة الحكم وبلاط السلاطين بدءًا من نابليون مرورًا بآل عثمان وصولًا إلى بريطانيا العظمى التى تكفلت بوعد وزير خارجيتها فى السماح لليهود بوطن قومى لهم فى فلسطين ولقد كان ذلك التعبير الأوروبى كاشفًا عن المسألة اليهودية بأبعادها التاريخية فى القارة الأوروبية، وإذا تأملنا رعاة إسرائيل من بداية ميلاد الحركة الصهيونية فسوف نجد أن بريطانيا كانت هى العراب الأول ثم تلتها فرنسا لفترة وجيزة اقترنت بالبرنامج النووى الإسرائيلى ثم كانت الولايات المتحدة الأمريكية هى العراب الدائم الذى يحمى إسرائيل ويعتبر أمنها جزءًا لا يتجزأ من الأمن الأمريكي، وواقع الأمر أن الدور البريطانى يتفوق عن غيره بحكم أسبقيته وبسبب الوجود الجغرافى على أرض فلسطين فضلًا عن تأثير بريطانيا على الغرب عمومًا والولايات المتحدة الأمريكية خصوصًا، وقد يكون من المفيد أن نسجل الملاحظات الآتية:
أولًا: إن وعد بلفور لا يمثل قرارًا منشئًا لدولة إسرائيل ولكنه قرار كاشف عن نيات الغرب عمومًا مع الرغبة الأوروبية العارمة فى تفريغ أوروبا من اليهود وحشدهم فى أرض فلسطين وهى أمور كانت مطروحة، ولكن وعد بلفور هو الذى جعلها ذات وضوح علنى فيه التزام من واحدة من أهم القوى الاستعمارية فى عالم ذلك الوقت وأعنى بها المملكة المتحدة.
ثانيًا: إن الحركة الصهيونية حاولت مع الخلافة العثمانية للحصول على شرعية الوجود فى وطن قومى على أرض فلسطين، وتختلف التفسيرات التاريخية لموقف خلفاء (آل عثمان) من هذا الطلب اليهودى فرغم أن هناك اتجاهًا يؤكد رفض المشروع الصهيونى من قبل الباب العالى إلا أن هناك أيضًا من يرون أن العثمانيين قد فكروا فى إرضاء اليهود ولو جزئيًا ولم يتخذوا موقفًا رافضًا بشدة لتلك الرغبة التاريخية.
ثالثًا: إن وعد بلفور يضيف وصمة أخرى لسياسات بريطانيا فى مستعمراتها السابقة أو المناطق التى كانت تحت الانتداب فلقد تركت دائمًا وراءها مشكلات تؤرق أبناء شعوب تلك المناطق لعشرات السنين المقبلة، ويكفى أن نتذكر ما جرى فى فلسطين بين العرب واليهود، وفى كشمير بين الهند وباكستان، وفى السودان بين شماله وجنوبه بل إن الحساسية التاريخية لدى قطاع كبير من السودانيين تجاه الشمال ومصر تحديدًا هى زراعة بريطانية وصناعة استعمارية لم نبرأ من نتائجها السلبية حتى اليوم.
رابعًا: إن وعد بلفور سوف يبقى فى الذاكرة العربية بل والعالمية أيضًا شاهدًا على العبث التاريخى فى مناطق مختلفة من العالم والسعى نحو تمزيق الوحدة الإقليمية لأراضى المستعمرات السابقة، وعندما كتب عبد الناصر رسالته الشهيرة إلى الرئيس الأمريكى (جون كيندي) ذاكرًا فيها عبارته الشهيرة عن وعد بلفور أنه (وعد ممن لا يملك لمن لا يستحق) وكان بذلك يضع يده على مكمن الخطر وسبب الخطيئة التى دفع الفلسطينيون ودول الجوار ثمنًا فادحًا لها بحروب متوالية وصراعات دامية مازالت نتائجها ماثلة على الأرض الفلسطينية حتى اليوم، ومازالت معاناة شعوب المنطقة تشير بأصابع الاتهام إلى ذلك الوعد المشئوم الذى مضى عليه قرن من الزمان.
خامسًا: إن الذكرى المئوية لوعد بلفور تأتى والمنطقة العربية لا تبدو فى أحسن أحوالها نتيجة التدخلات الأجنبية والضغوط الخارجية، إذ إن مائة عام بعد (سايكس - بيكو) تبدو وكأن هناك محاولات لإعادة تمزيق المنطقة وتقسيمها إلى دويلات فى ضربة خبيثة ضد مفهوم الدولة الوطنية، وليس ذلك غريبًا على من يستهدفون المنطقة ويصدرون لها الأزمات الطارئة بعد أن زرعوا فيها المشكلات المزمنة والألغام القاتلة، بل إننا نردد أحيانًا (ما أشبه الليلة بالبارحة) فالذين أصدروا وعد بلفور وشاركوا قبله فى رسم خريطة لدول المنطقة هم الذين يقفون اليوم لإعادة رسمها من جديد وفقًا لمصالح القوى الكبرى صاحبة الأطماع فى مستقبل المنطقة العربية بعد أن تفتحت شهيتهم نتيجة أحداث الربيع العربى وما نجم عنها من فوضى ضربت بعض دول المنطقة على نحو لم يكن متوقعًا إذ مازالت بعض شعوب المنطقة العربية تصارع من أجل الوجود وتتنازع على الحدود وتمضى فى طريق يبدو أحيانًا وكأنه اقتراب من المجهول فى ظل تغيرات دولية وإقليمية لا تتوقف. إن وعد بلفور فى عامه المائة يذكرنا بالحقوق الفلسطينية والأرض العربية التى جرت فوقها خمس حروب دامية ومثلها انتفاضات باسلة، ومازالت إسرائيل تمضى فى بناء المستوطنات وتغيير المعالم على الأرض وتشويه أصحاب القضية أمام الرأى العام فى العالم نتيجة الخلط المتعمد بين الكفاح المسلح والإرهاب الدموي، والغريب أن إسرائيل تفلت دائمًا من الإدانة الدولية اعتمادًا على الحماية الأمريكية الدائمة والفيتو الذى تستخدمه واشنطن ضد من يقترب من حليفها الأول فى الشرق الأوسط بل وربما فى العالم كله .. لعن الله وعد بلفور ومن أصدره ومن استفاد به، والمجد للشهداء الذين سقطوا دفاعًا عن أوطانهم وتمسكًا بأرضهم واحترامًا لأوطانهم.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47811
تاريخ النشر: 31 أكتوبر 2017
رابط المقال: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/620468.aspx