لا يتصور عاقل أن المذبحة المفجعة - التى حدثت على أيدى مجموعة إرهابية وحشية لا تنتمى إلى الإنسانية ولا تعرف دينًا ولا قومية - يمكن أن يكون مرتكبها مجرد تنظيم دموى شارد، بل إننى أظن أنها جزء من منظومة إجرامية لا تخفى على أحد لأن إرهابها يشبه إلى حد، كبير إرهاب الدولة بما تملكه من أدوات وأجهزة وأسلحة ومعدات، وأنظر بعين الشك إلى دول تعادى مصر وشعبها ولا تتوقف عن تمويل الإرهاب وتصديره إلى الشعب الآمن فى الكنانة، وليكن معلومًا أن ما حدث فى يوم (الجمعة الأسود) هو نوع من الجريمة المنظمة المأجورة من قوى إقليمية قادرة على التمويل وتحمل فى أعماقها كراهية دفينة للشعب المصرى العريق، لذلك يجب ألا يقترن اسم الإسلام منذ اليوم بالإرهاب، فالإرهابيون الذين لم يتورعوا عن سفك الدماء داخل المسجد متناسين حرمة بيوت الله هم أدوات رخيصة فى أيدى قوى شريرة نعرفها جميعا، ويجب ألا نسكت عنها، وسيأتى اليوم الذى يتلقى فيه القتلة أفدح العقاب حتى يدركوا أن الدماء البريئة غالية، وأن إهدارها نذير بسوء العاقبة، ويهمنى هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:
أولًا: هل لهذه الجريمة النكراء علاقة من حيث التوقيت بطرد مجرمى داعش من العراق ومعظم سوريا فاتجهوا إلى سيناء لفتح جبهة جديدة أمام الجيش المصرى الباسل؟ أم أن الأمر قد جاء مرتبطًا بعلاقات متردية مع بعض دول المنطقة، وربما تتجه أصابع الاتهام لإحدى دول الجوار؟ الكل لا يريد لمصر أن تنهض وتحلق ولا أن تسقط فتغرق ومعها المنطقة كلها، إنما يراد لها دائمًا أن تطفو فقط على سطح الماء وهذه هى نظرية قديمة منذ العهد الاستعمارى فى القرن التاسع عشر حتى اليوم.
ثانيًا: هل يستهدف القتلة بجريمتهم الشرسة، التى أودت بحياة عدد غير مسبوق من الشهداء، أن يثبتوا أن سيطرة مصر على سيناء ليست كاملة؟ وذلك هدف يخدم قوى كثيرة فى المنطقة بعضها أجنبى وبعضها عربي، كذلك فإن الدماء التى تساقطت على المصاحف داخل المسجد هى تأكيد مرة أخرى أن الإرهاب يعادى الإسلام وليس متحدثًا باسمه.
ثالثًا: إن استهداف الإرهاب لمصر - وطنًا وشعبًا - فى هذه الظروف هو تأكيد أن مصر تمضى فى طريق يستفز أعداءها ويستثير غضب خصومها عندما يكتشفون أن مصر تحقق نجاحات مؤكدة - وإن لم تكن سريعة - لذلك فهم يؤمنون بأن توجيه الضربات المتتالية للدولة المصرية إنما يصب فى خانة استنزاف جيشها وترويع شعبها وتأليب الجماهير على سلطة الحكم، ولكن ذلك لم يحدث - ولا أظنه يمكن أن يحدث - لأن الجميع يدركون أنها معركة حياة ومصير، ولابد أن نخوضها مهما يكن الثمن خصوصًا أن القتال قد فرض علينا ولم نخرج نحن لعدوان ولا سعيًا لظلم بل إن المصريين ينتمون إلى شعب آمن يحب الحياة ولا يصل إلى درجة العنف غالبًا.
رابعًا: لقد أصبحت الكنائس والمساجد هدفًا لنمط واحد من (الجريمة المنظمة)، بما يوحى بضرورة المواجهة الشعبية الشاملة لهذه الجرائم النكراء، فالذين حاولوا خلق الفتن وزرع الفرقة بين المصريين وقعوا أخيرًا فى الفخ، وعبروا عن اعتقادهم الخفى بوحدة المصريين مسلمين وأقباطًا، ولقد شهدنا كيف ينتفض الأزهر والكنيسة عند المساس بدور العبادة بلا تفرقة أو اختلاف، فالكل يتوحد أمام الفواجع والكوارث وبشاعة الجرائم.
خامسًا: إن التعاطف الدولى والإقليمى مع مصر فى حربها المفتوحة مع الإرهاب يعطينا إحساسًا بتقدير دورها وتثمين جهودها بل ومكانتها بين الأمم والشعوب، كما يشير ذلك إلى زيادة الإحساس بالخطر المشترك الناجم عن الظاهرة الإرهابية.
سادسًا: إنه بقدر وحشية الجريمة بقدر ما يكون الإصرار على العقاب والمضى نحو الثأر، لذلك فإننى أظن أن العناد الوطنى خصوصًا للجيش والشرطة المصريين لن يتوقف حتى تتم تصفية أوكار الإرهاب وتدمير آلياته وكسر إرادته، صيانة للتراب الوطنى الطاهر وحقنًا لدماء شهدائنا الأبرار.
سابعًا: إن الجدل العفوى الذى يثور بين حين وآخر ليذكرنا بأن استهداف (مسجد الروضة) كان استهدافًا لجماعة صوفية لا تتحمس لها الحركة السلفية بل وتحاول النيل منها، فتلك تفسيرات غير مقبولة تبدو وكأنها تبرير لنوعية الجريمة على حساب السياق العام للمواجهة المستمرة وفيها أيضًا طمس للحقيقة بل وتزوير للواقع، إنها تذكرنى ببعض المسئولين المصريين الذين يتحدثون حاليًا عن تحلية مياه البحر وترشيد الرى وتوصيل نهر الكونغو بنهر النيل فى محاولة ساذجة منهم لصرف الانتباه عن سد النهضة ومخاطره، وبهذه المناسبة فلقد حضرت منذ يومين حفل افتتاح الاجتماع السنوى للمجلس العربى للمياه حيث تذكرت أن الأمير خالد بن سلطان -الرئيس الشرفى للمجلس - كان هو أول من دق الناقوس منبهًا الجميع لخطورة العبث الإثيوبى بمياه النيل بل ودعا يومها صراحة إلى قمة عربية تبحث موضوع المياه فى وطننا العربى الكبير.
دعنا نقل صراحة إن ما جرى وما يجرى لن يكون هو الحادث الأخير، بل إن المنطقة مقبلة على مواجهات دامية ومشكلات معقدة وأزمات حادة، ولكن سوف تبقى مصر صامدة وحدها تقاتل الإرهاب وتبنى الوطن فى وقت واحد فذلك هو قدرها منذ فجر التاريخ .. وليدرك الجميع أن مصر دولة عصية على السقوط لأنها تمثل أقدم كيان سياسى فى المنطقة وهي سبيكة الثقافات، وأرض الحضارات، ومحتضنة الديانات.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47839
تاريخ النشر: 28 نوفمبر 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/625022.aspx