أتفهم حجم القلق والغضب معًا وأشارك الأغلب الأعم من العرب وغيرهم استهجان القرار الأمريكى غير المدروس من رئيس ليس له تاريخ سياسي، كما أننا لا نملك له مفاتيح لفهم دوافعه، إنه رجل بلا (كتالوج) يفكر بمفهوم المدى القصير مثلما يفكر فى الصفقات التجارية والأرباح العاجلة التى يتصورها أو يتوهمها، ولكن الغريب فى الأمر أن الصدمة كانت قوية على العالمين العربى والإسلامى وغيرهما رغم أن الأمر كان متوقعًا دائمًا ومطروحًا بصفة دائمة على سطح الصراع العربى الإسرائيلى والموقف الأمريكى منه، وأنا شخصيًا لم أندهش لسبب بسيط هو أن القرار الأمريكى بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل والعمل على نقل السفارة الأمريكية لها هو بلغة القانونيين موقف كاشف وليس موقفًا منشئًا، وإذا كان القانونيون يفرقون بين الحالتين فإننى أنضم إليهم فى تأكيد أن قرار (ترامب) لم يكن مفاجئًا لا على مستواه الشخصى ولا على المستوى الأمريكي، فالأمر مطروح أمام الإدارات الأمريكية منذ أكثر من عشرين عامًا، وأنا ممن يؤمنون بالمثل المصرى الشائع (وقوع البلاء ولا انتظاره) ولذلك فإن ما حدث يضع النقاط الواضحة على الحروف الكبيرة ويكشف أمام الجميع حقيقة الدعم الأمريكى المطلق والانحياز المفرط من جانب (واشنطن) تجاه الدولة العبرية، وأنا لا أرى أن هناك جديدًا على الإطلاق بل إن ماجرى هو تحصيل حاصل وهو امتداد للقرارات الأمريكية الخاطئة التى كبدت العالم خسائر كبيرة فى العقود الأخيرة، وكنت أتمنى عليه لو أن الله أعطاه رؤية سياسية ثاقبة أن يضع الأمر فى إطار مختلف بأن يعلن أن القدس عاصمة مقسمة فى إطار حل الدولتين، فالقدس الغربية عاصمة إسرائيل والقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، ولكن الرجل ومعاونيه وصهره صاحب التأثير عليه لا يستطيعون اتخاذ مثل هذا القرار العادل والشجاع والذى يسهم فى الحل، ولكنهم يستطيعون فقط سكب الزيت على النار وزيادة الموقف توترًا وتحويل المشكلة لكى تكون أكثر تعقيدًا لسبب بسيط وهو أنهم بذاتهم جزء من المشكلة وليسوا جزءًا من الحل، ولعلى أبسط أمام القارئ هنا الملاحظات التالية:
أولًا: إنه مما يلفت الانتباه فى توقيت القرار المشئوم لترامب أنه يأتى فى وقت بلغت فيه حالة التوتر والاضطراب فى الشرق الأوسط درجة غير مسبوقة، فالكل قلق إلى جانب نوع من التربص المتبادل بسبب الثقة المفقودة بين القوى الإقليمية المختلفة، كما أن العرب موجودون فى هذا المشهد وكأنهم (الأيتام على مائدة اللئام) تنظر إليهم إسرائيل فى استعلاء وهى ترى أن الخطر القادم منهم يكاد يكون معدومًا، وتنظر إليهم إيران نظرة السيطرة والرغبة فى الالتهام، بينما تنظر إليهم تركيا من منظور عثمانى مع رغبة فى تأليب قوى على غيرها داخل الدولة العربية الواحدة وكأن الإمبراطورية التى سقطت منذ ما يقرب من مائة عام لاتزال قائمة!
ثانيًا: لقد وجد الرئيس الأمريكى فى الدعم المطلق لإسرائيل مخرجًا لإنقاذه من ورطته وهو يبدو رئيسًا منقوص الهيبة، فقيرًا فى خبرته ليس لديه سجل سياسى يسمح له بأن يتخذ قرارات تاريخية، كما أنه يواجه أزمة حادة تكاد تطعن فى شرعيته وتسعى إلى إزاحته فكان هذا القرار مخرجًا له يسعى منه إلى تعزيز موقفه فى مواجهة خصومه وما أكثرهم، فالتوقيت ذهبى بالنسبة لترامب على مستواه الشخصى بغض النظر عن أهمية المصالح الأمريكية وإمكانية الإضرار بها نتيجة هذا القرار الأرعن.
ثالثًا: يجب ألا نندهش كثيرًا فترامب يمضى على خطى أسلافه الذين دعموا إسرائيل ولكن بدرجات متفاوتة، فأراد أن يسبقهم جميعًا بالتأييد المطلق والدعم الكامل، بل إننى أرى فى بعض تصريحاته ما هو أكثر صلفًا من تصريحات نيتانياهو ذاته وكأنما يريد أن يقول للإسرائيليين إنه ملكى اكثر من الملك!
رابعًا: لقد حان الوقت وبلغت التحديات درجة يجب أن يتنبه فيها العرب إلى ما هو قادم وألا يعيشوا على الأوهام والأحلام وأن يدركوا أن العالم يحترم الأقوياء وأننا فى عصر تسود فيه القوة وليس الحق ويسيطر فيه النفوذ الدولى وليس العدل الإنساني، فلينبذوا خلافاتهم وليركنوا إلى الحكم الرشيد ويفتحوا باب الحريات واحترام حقوق الإنسان وإعلاء قيمة الفرد فى الداخل مع الارتقاء بالتعليم والاهتمام بالبحث العلمى وترقية الثقافة وترشيد الإعلام والتوقف عن الاستهلاك المحلى للشعارات المكررة والعبارات المزمنة، فلا الشجب ولا الإدانة ولا عبارات الأسف سوف تجدى إنما تجدى برامج الإصلاح الحقيقى للدولة العصرية فى المنطقة العربية عندئذ سوف نكون قادرين على مواجهة الغير.
خامسًا: ما أشبه الليلة بالبارحة .. مائة عام تقريبًا تفصل بين قرارين يسهمان فى تعزيز الجريمة الكبرى وتغطية الظلم الفادح وأعنى بهما وعد بلفور البريطانى عام 1917 وقرار ترامب الأمريكى عام 2017 فإذا كانت بريطانيا هى الراعية الأولى لدولة إسرائيل فإن الولايات المتحدة الأمريكية هى الراعية الدائمة لها التى تضخ فى شرايينها قوة الدفع التى تشجعها على الشراسة والعدوان، ويكفى أن نتذكر أن الفيتو الأمريكى هو الذى يحمى إسرائيل من أى إدانة دولية مهما تكن الحقائق على الأرض، لأن سادة (البيت الأبيض) يؤكدون أن الولايات المتحدة الأمريكية هى ضامن أمن إسرائيل إلى الأبد.
هذه ملاحظات رأيت أن أسوقها لعلنا نجد فيها تحليلًا للمشهد الذى نواجهه والمأزق الذى نمر فيه، وهو أمر يستدعى إعادة النظر فى كل ما يحيط بنا أو يتعامل معنا ولندرك أن البدء متأخرًا خير من التوقف تمامًا، كما أن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة .. دعونا نبدأ!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47853
تاريخ النشر: 12 ديسمبر 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/627260.aspx