لا أظن أن هناك مشكلة أكثر تعقيدًا بالنسبة لمصر من مسألة العلاقات المصرية السودانية، فالدولتان التوأم - كما نقول دائمًا - كانتا جزءًا من مملكة واحدة حتى ثار الشعب المصرى على ملك مصر والسودان ولكن الأمر اختلف قليلًا بعد قيام ثورة يوليو عام 1952، حيث لاحظنا أن المواطن السودانى العادى قد أصابته صدمة حقيقية نتيجة الموقف المصرى من القضايا المختلفة, فضلًا عن تعاطف السودانيين مع اللواء محمد نجيب الذى تربى فى السودان ولم يخلُ من وجود دماء سودانية تجرى فى عروقه لذلك كان من الطبيعى أن يستفز الأمر القيادات والحكومات السودانية حينذاك ليتوقف عند الحد المعين من المشترك الثقافي، وليس يقلقنى شخصيًا أكثر مما نستوعبه من تصريحات سودانية تنضح بالافتراء ولا تخلو من مغالطة، والمواقف السودانية تجاه مصر فى العقود الثلاثة الأخيرة تختلف عن السياق التاريخى للعلاقات الوثيقة بين الدولتين إذ خرج السودان عن الإطار المعتاد لروح ما كنا نطلق عليه وادى النيل وأصبح يتصرف بقدر من الكراهية التى تصل أحيانًا إلى حد الانتقام من ماض لم تكن مصر مسئولة عنه، ولكنها رواسب تطفو على السطح بين حين وآخر وتسبب حالة من التوتر فى العلاقات بين القاهرة والخرطوم، وقد رأينا ولأول مرة فى تاريخ السودان المستقل أن حكومته تتخذ مواقف متضامنة مع طرف ثالث أو أطراف أخرى ضد مصر وهو أمر لم يكن متوقعًا لأن مصر من جانبها لم تفعل ولن تفعل ذلك بل تسعى دائمًا إلى رفع الضغوط عن السودان وتقديم ما يمكن أن يؤدى إلى استقرار الأوضاع فى أقرب شعوب الأرض إلى المصريين، ونحن نتذكر الآن السنوات التى سبقت استقلال السودان مباشرة ونعترف أن الأوضاع المضطربة فى مصر وصراع السلطة وإقصاء محمد نجيب كانت أحد العوامل التى أدت إلى بداية التباعد حتى تحول إسماعيل الأزهرى الزعيم الوحدوى إلى مطالب بالاستقلال الذى تحقق فى أول يناير عام 1956 ولم تعارضه مصر كما لم تمانع فيه إيمانًا بسيادة السودان وحقه فى تقرير مصيره، وقد توالت حكومات وأنظمة على الحكم فى الخرطوم من عبد الله خليل إلى إبراهيم عبود إلى الدورة الديمقراطية التى جاءت بالسيد الصادق المهدى رئيسًا للوزراء وهو فى ظنى أفضل الساسة التقليديين فى السودان لا لأنه سليل بيت المهدى الكبير، ولكن لأنه ملك الشجاعة على التحول إيجابيًا فى علاقته هو وحزبه بالقاهرة نتيجة فهمه للظروف السياسية واستيعابه للبيئة المتغيرة والمناخ الجديد الذى يسود العوالم العربية والإفريقية والإسلامية، ولا عجب فالرجل زميل فى جامعة أكسفورد حصل على قدر كبير من العلم العصرى والخبرة المتراكمة، أما السيد عمر البشير فأمره عجيب فلو تابعنا تصريحاته منذ ظهر على السطح عام 1989 لوجدنا التناقض الحاد بينها حتى أصبحنا نسميه (حبايب أم حلايب) وهو يظن أن شحن جماهير مواطنيه ضد مصر يمثل قضية تدعم حكمه وتعطيه شعبية هو فى حاجة إليها، والرائع فى الأمر كله أن مصر لم تعامل نظام الرئيس البشير بأفعاله بل وقفت دائمًا ضد فرض العقوبات أو استمرارها على السودان الشقيق كما ساندت البشير عندما طاردته المحكمة الجنائية الدولية رغم أن أجهزة نظامه كانت متورطة فى محاولة اغتيال الرئيس الأسبق مبارك فى العاصمة الإثيوبية، ولكى لا أستطرد وأنكأ جراحًا لا نريد لها أن تنزف فإننى أقدم الملاحظات الثلاث التالية:
أولًا: إن فهم طبيعة العلاقات بين القاهرة والخرطوم تستوجب بالضرورة استيعاب الخلفية التاريخية وإدراك حجم الحساسيات المتراكمة بفعل أطراف خارجية تتقدمها بريطانيا دولة الاحتلال لوادى النيل شماله وجنوبه، كما أن فهم النقلة النوعية التى جرت فى السودان من الحزبين التقليديين الكبيرين فى مدرستى الخاتمية والأنصار أى أتباع السيد محمد عثمان الميرغنى وأتباع السيد الصادق المهدى فإن الأمر يكشف لنا عن أجيال جديدة لا تستوعب معنى وحدة وادى النيل ولا تدرك الحجم التاريخى العميق للعلاقة الوثيقة بين مصر والسودان.
ثانيًا: إن رياح الإسلام السياسى التى هبت على الخرطوم وجاءت بالجبهة الإسلامية إلى سدة الحكم بدلًا من السودان الديمقراطى الذى يحترم التعددية ويؤمن بالمواطنة إلى سودان يمهد الأجواء لتقسيم أرضه وانفصال جنوبه عن شماله مع علاقات متأرجحة بين الارتباط ببعض دول الخليج العربى تارة وإيران وثورتها الإسلامية تارة أخرى، بينما السودان الإفريقى العربى يدفع الفاتورة فى النهاية.
ثالثًا: إن مصر تتحمل على الجانب الآخر قدرًا من سياستها السلبية تجاه السودان عندما أدارت ظهرها لذلك البلد الشقيق ولم تضعه فى بعض المراحل على قمة أولويات سياستها الخارجية فكانت النتيجة هى مواقف سودانية سلبية تجاه مصر فى بعض القمم العربية والإفريقية إلى جانب موقف مؤسف فى مسألة سد النهضة حيث يبدو الموقف السودانى أقرب إلى نظيره الإثيوبى منه إلى الموقف المصرى فى هذا السياق بدعوى الحصول على الكهرباء من السد الجديد فضلًا عن زراعة مساحات واسعة من الأراضى السودانية الشاسعة بوفرة المياه التى يحققها السد عند استكماله ولم تعبأ الخرطوم كثيرًا بالمخاوف المصرية بل حاولت الإقلال منها. إننا يجب أن نعيد النظر معًا فى القاهرة والخرطوم فى مواقفنا من أجل إحياء روح الإخاء المشترك بين دولتينا وأن ينسى السودانيون خطايا الاحتلال البريطانى وممارساته على المصريين والسودانيين معًا، وأن ينسى المصريون استيلاء حكومات البشير على استراحات الرى وفرع جامعة القاهرة بالخرطوم وشكواه ضد مصر فى مجلس الأمن، فالسياسة تقوم على النسيان والغفران ولا غنى لمصر عن السودان!
مصطفى الفقي ;
جريدة الأهرام العدد 47860
تاريخ النشر: 19 ديسمبر 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/628336.aspx