شهدت الحياة الفكرية والسياسية والثقافية فى مصر فى الآونة الأخيرة حراكًا واضحًا تمثل فى سيل دافق من المذكرات الشخصية والسير الذاتية، وأثار بعضها الجدل وأثار البعض الآخر الإعجاب ولكنها جميعًا أثارت الاهتمام وضخت دماءً جديدة فى منتديات العاصمة ولياليها بل ووضعتنا أمام قراءة جديدة لأحداث قديمة، ولقد كانت مذكرات الدبلوماسى والسياسى عمرو موسى هى نموذج لما أثارته من جدل وما دعت إليه من تحريض على التفكير ومراجعة للماضى القريب بأحداثه التى لا تزال شاخصة فى الأذهان والتى تعتبر تأريخًا للحياة السياسية والمواقف الدبلوماسية التى مرت بها البلاد فى العقود الأخيرة، وأهمية مذكرات السيد عمرو موسى أنها شهادة مباشرة سبقها إليه دبلوماسيون آخرون من أمثال أحمد عصمت عبد المجيد وعبد الرؤوف الريدى ونبيل العربى وأحمد أبو الغيط وقبلهم جميعًا محمد إبراهيم كامل وإسماعيل فهمى كما تميزت مذكرات بطرس غالى بنمط من الفرادة الأكاديمية مع تأصيل المواقف وربط الأحداث بجذورها، وما دمنا نتكلم عن المذكرات الشخصية فإننا أمام حدث لافت جرى أخيرًا وهو صدور كتاب (يومًا أو بعض يوم) للمثقف المصرى الكبير محمد سلماوى والذى أعتبره فتحًا جديدًا فى عالم السير الذاتية بسبب أسلوب كتابته وسلاسة لغته وقدر الانفتاح والمصارحة فيه وقد استمد عنوانه من إحدى آيات القرآن الكريم كما فعل قبله الدبلوماسى الكبير عمرو موسى فى عنوان مذكراته (كتابيه)، ولنعد إلى محمد سلماوى المفكر السياسى والمناضل الوطنى والصحفى اللامع والكاتب المرموق الذى جمع بين القدرة والطرح النظرى والتحرك العملى فقد كان رئيس اتحاد الكتاب المصريين والعرب وما زال يشغل حاليًا بعض المواقع الدولية ذات الطابع الثقافى منها عضويته لمجلس أمناء مكتبة الإسكندرية وكذلك إشرافه على إحدى الفضائيات الأوروبية، ولقد حضرت يوم تدشين كتابه وحفل التوقيع على إهدائه بل وتحدثت فى تلك المناسبة كما فعلت من قبل مع الصديق عمرو موسى منذ أسابيع قليلة، ولابد أن أعترف أن كتاب سلماوى قد شدنى بقوة فعكفت عليه فى ليلتين متتاليتين حتى أنهيت صفحاته مستفيدًا ومستمتعًا ومعجبًا ولقد سبقنى إلى ذلك الاعتراف المثقف العربى الكبير د.جابر عصفور فى كلمته يوم حفل توقيع الكتاب، ويهمنى هنا أن أطرح الملاحظات الآتية:
أولًا: إن أدب السيرة الذاتية يعتبر من أكثر أنواع الآداب تأثيرًا فى الحياة الفكرية وما زالت هناك مذكرات شهيرة عالقة فى ذهنى مثلما كتب جان جاك روسو والمهاتما غاندى وأضيف إليهما ما كتبه المفكر المصرى الكبير الراحل د.لويس عوض خصوصًا فى الجزء الخاص بـسنوات التكوين فلقد بهرتنى صراحته وأذهلتنى شجاعته وجعلتنى أضع ذلك المفكر الكبير فى مصاف العظماء فى تاريخنا الفكرى والثقافى وقد انضم إليهم آخرون على نفس الطريق لأنهم يدركون أن السيرة الذاتية وثيقة باقية يجب أن يحرص عليها صاحبها وأن يدفع بها لتأخذ مكانها اللائق فى مكتبة التاريخ الإنساني، وهل ينسى أى منا درة الأدب العربى لعميده طه حسين حين ضمن سيرته الذاتية فى أيقونته (الأيام)؟
ثانيًا: إن السيرة الذاتية إذا كتبت بأمانة ودون ادعاء وبدقة ودون تجاوز فإنها تتحول إلى محرك للتفكير ومحرض على التأمل وتفتح أمام الأجيال الجديدة أبوابًا لقدوة يفتقدونها ونموذج يحتذون به لذلك فإن سير الساسة والمفكرين والأدباء والفنانين هى أضواء كاشفة على طريق الأجيال الجديدة وحركتها نحو المستقبل.
ثالثًا: لا يختلف اثنان على أن كتابة السيرة الذاتية تحتاج إلى نمط متميز من الحكائين الذين يقتربون من أدب الرواية وتكون لديهم القدرة دائمًا على تسليط الأضواء على أحداث يبرزونها ومواقف يفسرونها وتصرفات يوضحون الدوافع إليها خصوصًا أننا نفتقد كثيرًا المصداقية والموضوعية والبعد عن الشخصنة وكلها من آفات هذا الزمان بل وكل زمان فادعاء البطولة واستعارة المواقف بعد أن انتهت أحداثها هى كلها أمور تنال من مصداقية من يكتب وتضعه فى موضع المساءلة التى هو فى غنًى عنها فالموضوعية والحياد الأخلاقى هى أمور لازمة فى كتابة السير.
رابعًا: عندما يستشهد كاتب السيرة بأشخاص رحلوا عن عالمنا فإننا نرتاب كثيرًا فيما كتب ونسعى إلى التدقيق فى صحة ما نقل عنهم لأنهم غادروا حياتنا ولم يعد بمقدورنا الحوار معهم أو التحقق من صدق أقوالهم لذلك فإن التجرد والنزاهة يجب أن تحكم تمامًا من يسرد سيرته الذاتية أو يتصدى للكتابة عن أشخاص رحلوا عن عالمنا حتى تظل مصداقيتهم قائمة وكلمتهم مسموعة، ولقد لاحظت فيما قرأت من مذكرات أن كثيرًا من شهود الأحداث قد رحلوا وأصبح من المتعين علينا التحقق فيما نقل عنهم والتأكد مما نسب إليهم، ولقد حرصت شخصيًا عندما أصدرت كتابى (سنوات الفرص الضائعة) أن يكون شهودى فيما قلت أحياء إلا من رحلوا بعد صدور ذلك الكتاب، ولا يقف الأمر عند هذا الحد إذ لابد من الأمانة فى عرض الظروف والملابسات التى أحاطت بالأحداث والأزمات والوقائع.
هذه ملاحظات طافت بخاطرى فى الفترة الأخيرة خصوصًا بعد أن انتهيت من قراءة المذكرات الممتعة للأديب المصرى الكبير محمد سلماوى الذى ألقى كلمة نجيب محفوظ فى محفل نوبل عندما حصل عليها ذلك الروائى المصرى الراحل، وهو أيضًا الذى تحاور مع الأستاذ هيكل وعمل معه لعدة سنوات وأنا أتمنى أن يحذو حذوه كل أدبائنا بل ومفكرينا وساستنا من أجل إضاءة الأنوار على طريق الأجيال القادمة.
مصطفى الفقي ;
جريدة الأهرام العدد 47868
تاريخ النشر: 26 ديسمبر 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/629608.aspx