فى عام 1980، كنت أعمل دبلوماسيًّا فى السفارة المصرية فى الهند، وكانت تأتينا وفود من الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف بدعوة من مسلمى الهند الذين كان يزيد عددهم حينذاك على مائة مليون نسمة، فزارنا اثنان من وزراء الأوقاف فى أوقات متتالية ثم بدأت مصر تستخدم الميزة النسبية لها فى إرسال قراء القرآن الكريم ذوى الشهرة الكبيرة فى العالمين العربى والإسلامى، وكان أول من زارنا هو القارئ الشهير الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وهو صاحب شعبية كاسحة، حتى أن البعض قد أشهر إسلامه عند سماع صوته، كما افتتن به الرجال والنساء على السواء، حتى كانت الصحافة تداعبه قائلة (عبدالباسط براندو)، وكانت الدعوة الأولى للقارئ الشهير فى مدينة دلهى القديمة ومسجدها العتيق الذى يؤمه أحيانًا مئات الألوف من البشر.
وعندما جرى الإعلان عن تلاوة الشيخ عبدالباسط فى «دلهى القديمة» احتشد عشرات الألوف من المسلمين عند مداخل المسجد والشوارع المحيطة به، وكانت هناك منصة عالية يجلس عليها الشيخ ويرافقه مندوب من السفارة، وكنت أنا ذلك المحظوظ بحكم إشرافى على الشئون الثقافية والقنصلية إلى جانب عملى الدبلوماسى، وما أن بدأ الشيخ فى تلاوته التى تشد الأسماع وتخطف القلوب حتى انغمر الآلاف فى البكاء وعلت الأصوات فى تحية مصر الإسلامية وأزهرها الشريف، والشيخ يزداد تألقًا مع سخونة الموقف وانفعال المستمعين، وأدَّعى هنا أنها كانت من أسعد لحظات حياتى تلك التى رأيت فيها ذلك المشهد، وفجأة صعد إلى المنصة عددٌ من الهنود ومعهم «جلد نمر محنط» يبدو رائع الجمال وصمموا على تقديمه هديةً للشيخ فتوقف هو عن التلاوة دقيقتين لاستلام الهدية، وهمس فى أذنى: هل هى هدية قيمة؟ كم تساوى؟ فقلت له وبأسعار ذلك الزمان: إنها تساوى عشرة آلاف روبية هندية تقريبًا، فقال الشيخ: أى بكم دولار، فقلت: أى حوالى 1000 دولار، فرد الشيخ: إذن هم يستحقون نصف ساعة إضافية على الساعة المقررة، ثم انشرح تمامًا وتجلى صوته وتجاوب معه الناس بشكل غير مسبوق، وكنت أفكر فى المشكلة المعقدة كيف سنخرج من هذا التجمع وأنا أعانى من «فوبيا الأماكن المزدحمة» كما أننى واثق من أن كل شخص من الحاضرين يريد أن يلمس عباءة الشيخ الجليل، ولم يطل تفكيرى إذ تلقفنا عددٌ من الضباط والجنود الهنود فى اتجاه عكسى من الناس وأركبونا سيارةً فرَّت بنا فى اتجاه السِّفارة، ولا أعرف ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم تتم هذه الحيلة الذكية! ربَّما كنا قد أصبنا على الأقل بجراح وخدوشات فى أحسن الأحوال.
أمَّا المرة الثانية التى أتذكرها جيدًا فقد كانت زيارة الشيخ «الطبلاوى» بصوته العريض والعميق فى ذات الوقت، ولقد تأثر الهنود بقراءته كثيرًا وطُربوا لها فى مساجدهم، كما تعودوا مع مشاهير القراء من مصر، وكان يرافق الشيخ الطبلاوى إذاعى راحل، كان مفتونًا بالشيخ، ويبكى كلما استمع إلى صوته، وكانت لديه رغبة جارفة فى اقتناء الببغاوات الشهيرة من الهند، وبالفعل عكف فى السفارة على شراء بعضها له وللشيخ، وكان شيئًا طريفًا حوارهما الممتع حول أى الببغاوات يكون لكل منهما، إلى أن استقر كل واحد على الببغاء الذى يريده، ثم عاد الشيخ إلى قراءته الرائعة وتلاوته الرصينة وعاد الإعلامى إلى تسجيلاته وبرامجه، وكأن لم يكن بينهما حوار منذ دقائق حول اختيار الببغاوات فإذا الشيخ يتجلى من جديد ويعيد ويزيد والإعلامى يبكى أمام آيات الوعيد فى الذكر الحكيم.
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 266
تاريخ النشر: 20 فبراير 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b0%d9%83%d8%b1%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d9%85%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%8a%d8%ae%d9%8a%d9%86-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%a7%d8%b3%d8%b7-%d9%88-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d8%a8%d9%84%d8%a7%d9%88/