يذكر التاريخ المصرى الحديث بعض الكتب المحورية التى تركت بصمات قوية على الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية ونالت شهرة كبيرة فى وقتها ثم امتدت تلك الشهرة لتعبر حاجز الزمن وتبقى نقاط تحول لا تختفى، ولسوف يبقى كتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلى عبد الرازق مثيرًا ما بقيت قضية الخلافة الإسلامية متداولة، ولسوف تبقى كتب للعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وسلامة موسى وغيرهم علامات مضيئة فى مسار الفكر والأدب للقرن العشرين، وهناك كتب أخرى ربما لم يتحقق لها نفس القدر من الشهرة ولكنها لا تقل أهمية، ولعلى أتذكر الآن كتاب (المسألة المصرية) لصبحى وحيده وهناك عشرات الكتب ذائعة الصيت قوية التأثير فى تاريخنا الحديث ولكن يبقى لكتاب عميد الأدب العربى د.طه حسين (مستقبل الثقافة فى مصر) الذى صدر عام 1938 مذاق خاص لأنه كتاب محورى بمعنى الكلمة، ولقد لفت نظرى للذكرى الثمانين لنشر ذلك الكتاب الأديب المصرى الكبير والناقد المعروف د.جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق فلقد تفضل واتصل بى واقترح على مكتبة الإسكندرية أن تحتفى بالذكرى الثمانين لصدور ذلك الكتاب ولقد قدرت له هذه المبادرة وطلبت على الفور تخصيص إحدى جلسات المؤتمر السنوى للمكتبة والقادم خلال أسابيع قليلة للاحتفاء بهذا الكتاب ولقد دعوت الأديب المفكر صاحب المبادرة لكى يترأس تلك الجلسة إذ إن جابر عصفور هو حفيد أكاديمى لطه حسين باشا تيسر له أن يراه مباشرة من خلال الجيل الأوسط الذى تمثل فى أستاذته الراحلة سهير القلماوى، ويثير كتاب (مستقبل الثقافة فى مصر) أجواء لا تزال باقية ويحرض على التفكير تجاه قضايا لا تزال قائمة، ومكتبة الإسكندرية تحديدًا باعتبارها عند النشأة الأولى نتاجا لتزاوج الحضارات الفرعونية واليونانية والرومانية تقترب كثيرًا من فكر الأستاذ العميد حين ربط بين مستقبل الثقافة فى مصر وبين شعوب البحر المتوسط ولاسيما بلد (الحضارة الهلينية) التى تربطها بالإسكندرية ومكتبتها صلات عميقة وممتدة حتى الآن ونحن نطالب بإحياء أفكار ذلك الكتاب ولا نراه مختلفًا مع عروبة مصر أو إسلامها ولكنه يعبر عن شريحة مؤثرة من تاريخها الحضارى الذى تنفرد به ويفاخر شعبها بوجوده لذلك فنحن نتطلع إلى مناقشات واسعة حول رائعة طه حسين بحثًا فى مستقبل الثقافة بل والتعليم والبحث العلمى أيضًا, كما أن كلمة الثقافة هنا تشمل البيئة السياسية والمناخ الفكرى بما يفرزه من آداب وفنون بل وتتجاوزها إلى بعض العلوم الحديثة ولعلنا نطرح فى هذه المناسبة الملاحظات التالية:
أولاها: إن طه حسين صاحب (الأيام) وابن الأزهر الشريف قد عاد من فرنسا وهو يحمل إحساسًا عاليًا بالتزاوج بين الثقافات حتى استطاع أن يقوم بعملية (تضفير) بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية المسيحية وقد اعتمد الفلسفة الحديثة منهجًا واستمد من ذخيرته الكبيرة فى المعارف المتصلة بالحضارتين قوة دفع نحو رصد المستقبل المحتمل لذلك التزاوج بين المدرستين الكبيرتين فى الفكر المصرى المعاصر والتى تجنح إحداهما نحو (الأصولية) بينما تسعى الأخرى نحو (الحداثة) وتبقى قيمة كتاب طه حسين باعتباره وثيقة تاريخية ترتبط بشخصية مصر الحضارية وهويتها القومية.
ثانيتها: ما أحوجنا الآن ومصر تسعى للخروج من عنق الزجاجة والتحليق فى آفاق المستقبل إلى استرجاع تلك الرؤى البناءة التى طرحها ذلك الكتاب العمدة فى موضوعه وأظن أن العميد الذى أتشرف بالإقامة فى حجرته بفندق سيسل بالإسكندرية كان فاقدًا البصر ولكنه كان ثريًا فى البصيرة غنيًا فى الرؤية، وعندما كان يعزف موسيقاه اللفظية بلغته الفريدة فإنه كان لا ينسى جوهر المعنى ولا يستغرق فى الشكل على حساب المضمون لذلك وردت أفكار عصرية فى معظم كتبه بل وفى (أحاديث الأربعاء) أيضًا ولكن مجرد اتجاهه للاهتمام بمستقبل الثقافة المصرية والحفاوة بهذا الموضوع الجوهرى فإن الأمر يجعلنا ندرك أننا مازلنا نعيش معه ونقتدى به ونقتبس منه.
ثالثتها: إن طه حسين الذى امتد به العمر ليشهد حرب أكتوبر المجيدة حتى إ ن صديقه ورفيقه توفيق الحكيم قد قال يومها لقد أبت روح طه حسين أن تفارق جسده قبل أن تفارق الهزيمة جسد الوطن، هكذا كانت لغة الكبار وليتنا نستعيد كثيرًا من أضواء عبقريات العقاد والمنهج العلمى لسلامة موسى أو حتى نعيد قراءة الأيام للأستاذ العميد فهى قطعة من الشجن النبيل والحزن الغامض لرجل هو ظاهرة لا تتكرر على مر السنين وكلما مررت أمام مبنى جامعة الإسكندرية وتذكرته أول مدير لها أيقنت أن الوطن حافل بأبنائه العظام وزاخر بالمواهب والخبرات لمن رحلوا ومن بقوا.
إننى أطالب كل المعنيين بالشأن الثقافى فى مصر بل وفى أنحاء الوطن العربى بإحياء كتاب (مستقبل الثقافة فى مصر) وجعل عيد صدوره الثمانين مناسبة لندوات حوله ودراسات تغوص فيما وراء سطوره حتى نجعل للكتب الرفيعة الشأن أعيادها الفضية والذهبية والماسية والمئوية لأننا بذلك نحيى سطورها ونستعيد أفكارها ونبنى عليها.. ويبقى الشكر موصولًا لصاحب المبادرة الأستاذ الدكتور جابر عصفور على توهجه الفكرى وذاكرته الثقافية وإسهاماته الكبيرة فى الأدب العربى المعاصر وهو ما يتمثل فى الحجم الكبير من زملائه وتلاميذه فى أنحاء الوطن العربى وهو أمر شهدته بنفسى كلما جمعتنى به الظروف فى أحد المؤتمرات الدولية.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47888
تاريخ النشر: 16 يناير 2018
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/632864.aspx