تعددت زياراتنا لـ«دمشق» بصحبة الرئيس الأسبق «مبارك»، أثناء حكم الرئيس «حافظ الأسد»، بعد عودة العلاقات بين «مصر» و«سوريا»، والتى كانت مقطوعة بسبب اتفاقيات «كامب ديفيد»، وكان يجرى استقبالنا فى «دمشق» بحفاوة، فنشعر بالألفة الشديدة مع أشقائنا السوريين، إذ يجلس الرئيسان فى جلسة مغلقة، ونبقى نحن فى قاعة مجاورة نتحدث ونتسامر مع كبار رجال القصر من معاونى الرئيس «الأسد الأب»، وكان يتقدمهم اللواء «عدنان مخلوف»، وهو يمت بصلة قرابة مباشرة لقرينة الرئيس «حافظ» -والدة الرئيس «بشار»- وكنا إذا سألنا من هو مدير مكتب الرئيس؟ من هو كبير الأمناء؟ ومن هو قائد الحرس الجمهورى؟ تكون الإجابة واحدة اللواء «عدنان» وكان شخصًا لطيف المعشر تجمعنى به مودة بحكم عملنا المشترك مع الرئيسين.
وفى إحدى الزيارات وبعد تناول الغداء كانت الأنباء تتواتر عن أعمال عنف فى «قرية الكحك» بـ«محافظة الفيوم» فى «مصر» فقال لى اللواء عدنان: يا أبو «صطيف» -وهذه كنية شامية لاسم «مصطفى»- ماذا يحدث عندكم؟ فقلت له: إنها موجات إرهابية تسعى تحت ستار الدين لضرب استقرار البلاد والإسلام منها براء، فقال لى: لماذا لا تلجأون للحل الطبيعى، فقلت له: وما هو هذا الحل، فقال لى: حموى يامشمش -فى إشارة إلى أحداث «حماه» فى مطلع ثمانينات القرن الماضى حيث أغارت قوات «الأسد» على المدينة وعصفت تمامًا بالجماعات الدينية المتطرفة- فقلت له: إن الأمر لدينا يا أخ «عدنان» مختلف، فظروفنا تختلف تمامًا عنكم، ثم إننا لا نضحى بعشرين ألف قتيل مثلما حدث عندكم، فقال لى: لا تبالغ يا أخى إنهم أقل من ذلك، ثم أشار إلى صورة الرئيس «حافظ» المعلقة خلفه، وقال: بالمناسبة، فالرئيس لا علاقة له بما تم، فلم يعرف أبعاده إلا بعد انتهائه، وهو يريد بذلك أن يغسل يدى الرئيس «الأسد» من تلك الأحداث الدامية، فقلت له: إن هناك مشكلة أخرى وهى قضايا حقوق الإنسان والرقابة الدولية المستمرة التى ترفض الإرهاب، ولكنها أيضًا تنتقد كل سبل القضاء عليه! فقال لى: إن «عبدالناصر» هو معلمنا الأول فى هذه الأمور فلماذا تهتمون الآن هكذا بردود الفعل الدولية؟ فقلت له: باختصار، إن ظروفنا لا تسمح بذلك و«مصر» ليست «سوريا» ونحن نأمل القضاء على الإرهاب فى ظل الحد الأدنى من احترام الحريات وضمانات حقوق الإنسان، فابتسم وصمت.
وكم كانت مناقشاتنا ثرية وصريحة فقد كنا نشعر فى زياراتنا لـ«سوريا» بالذات أننا داخل الوطن، فلا أظن أن شعبًا عربيًّا أحب المصريين مثلما هو الأمر بالنسبة للسوريين، الذين شجعوا ذات يوم -فى عز سنوات القطيعة الدبلوماسية بسبب اتفاقيات «كامب ديفيد»– المنتخب المصرى لكرة القدم الذى كان يلاعب الفريق السورى أثناء دورة دول البحر المتوسط التى عقدت فى «اللاذقية» وقد فوجئ العالم كله بأن السوريين يشجعون الفريق المصرى ضد فريقهم إكرامًا لـ«مصر» وإمعانًا فى ضيافة فريقها، لذلك فإننى ممن يشعرون بالأسى الشديد لما وصلت له الأمور فى «سوريا» وحولت شعبه الأبى العريق إلى دماء وأشلاء ولاجئين، وكلما قابلت طفلاً سوريًّا فى أحد شوارع «القاهرة» شعرت أنه حفيدى الذى يجب أن أرعاه وأن أهتم به، وقد لاحظت فيهم الكبرياء والمحافظة على الكرامة ورفض المعونة بلا مقابل، إذ كان أحدهم يبيع الحلوى وشكرته عليها ورأيت أن أعطيه ثمنها دون أخذها ولكنه رفض وقال: لست متسولاً ولكننى أبيع ما نصنع فى المنزل، ذلك هو الشعب السورى الذى كنا نحن وهم دولة واحدة قامت فى مثل هذه الأيام منذ ستين عامًا ومازالت ذكرياتها تصدح فى مخيلتى رغم أننى كنت طفلاً عند قيامها، وسوف تبقى كلمات «عبدالناصر» و«شكرى القوتلى» وقادة القُطرين أملاً يضىء على طريق الوحدة العربية الشاملة مهما طال ذلك الطريق، ومازلت أتذكر صوت «عبدالناصر» يوم الانفصال وكيف خرجت «جامعة القاهرة» تستقبله متحدثًا وهو يكشف أبعاد المؤامرة ويرفض التدخل العسكرى الذى كان يستطيعه مدعومًا بدستور دولة الوحدة ولكنه رأى أن الاقتتال (المصرى – السورى) مستحيل وأن دماء الطرفين غالية بنفس الدرجة.. إنها أيام مضت وزمن جميل قد لا يعود!
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 286
تاريخ النشر: 6 مارس 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%86%d8%b1%d8%a7%d9%84-%d8%b9%d8%af%d9%86%d8%a7%d9%86-%d9%81%d9%89-%d8%af%d9%85%d8%b4%d9%82/