تلقيت دعوة لإلقاء محاضرتين أولاهما في جامعة (أكسفورد) والثانية في جامعة (ليفربول) وقبلهما أمضيت في لندن ليلتين حيث كنت على موعد مع الجراح العالمي د. مجدي يعقوب للقاء في متحف العلوم بالعاصمة البريطانية وذلك لتوجيه دعوة لمديرة المتحف ــ وهي عالمة ذائعة الصيت ــ بأن تنضم إلى عضوية مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية بناءً على ترشيح السير مجدي يعقوب لها، وقد استقبلتنا مديرة المتحف وأخذتنا ــ الدكتور مجدي يعقوب وأنا ــ في جولة بأقسام ذلك المتحف الرائع الذي يصيب الإنسان بدهشة بالغة متنقلين بين أقسام الطيران والفضاء، وأجهزة الاتصالات، والسكك الحديدية والسيارات فضلًا عن وجود كبسولة فضاء حقيقية أمضت في الجو أسابيع من قبل وهي إهداء من الولايات المتحدة الأمريكية لمتحف العلوم في لندن ذلك المتحف الذي يملك ثروة هائلة من المقتنيات التي لا نظير لها في أي مكان آخر، وقد بلغت دهشتي شخصيًا حدودًا لا مثيل لها وشعرت بأنني أرى العالم من خلال تطور العقل البشري وما ظهر فيه من اختراعات وما توصل إليه من اكتشافات، وقد انضم إلينا على مائدة الطعام زوج السيدة (دام ميري) وهو عضو في مجلس اللوردات كما أنه شخصية اجتماعية من طراز نادر، وقد بدأنا نتجاذب أطراف الحديث ونحن على المائدة حول التطور العلمي الكاسح في عصرنا، ثم تطرق الحديث إلى الأحوال السياسية في الشرق الأوسط والاحتمالات القاتمة أمامنا، وقد استمتعنا نحن الأربعة بجلسة ثرية تحدثنا خلالها في كل القضايا المتصلة بمنطقة الحرب والسلام، وقد كان الدكتور مجدي يعقوب محتفظًا بهدوئه الملائكي الذي يدعو إلى الاحترام والتقدير دائمًا، وعرفت منه أنه مثلما يسبح في الصباح في أسوان فإنه يمارس ذات الهواية في بريطانيا ولكن في المساء، وقد اكتشفت مدى احترام البريطانيين له، وظل يحكي لنا بعض النوادر منها أنه تلقى ذات يوم اتصالاً هاتفيًا من مكتب ملكة بريطانيا وهو في غرفة العمليات فدعا زميلًا له لكي يحل محله لدقيقة أو اثنتين ليرد على تليفون ملكة بريطانيا حيث أبلغه سكرتيرها أن صاحبة الجلالة قد رشحته للحصول على لقب سير في الإعلان السنوي لألقاب الشرف العليا فعاد بعد ذلك بلحظات إلى حجرة مريضه لكي يستكمل مع زميله إجراء عملية القلب المفتوح لذلك المريض، وقد استمر عطاء مجدي يعقوب في كل مكان حتى اكتسب احترام كل من حوله، وفي مرة ثانية وفى أثناء إجرائه جراحة قلب مفتوح لأحد المرضى أبلغ بأن هناك اتصالًا هاتفيًا عاجلًا من القصر الجمهوري في مصر ليبلغه بأن هناك طائرة في مطار (هيثرو) على استعداد للإقلاع به ومعه طاقم معاونيه من جراحي القلب، وذلك في أسرع وقت لأن الرئيس السادات قد أصيب فى أثناء العرض العسكري في صباح ذلك اليوم، وبالفعل استقل د. مجدي يعقوب وطاقمه السيارات مسرعين في طريقهم إلى مطار هيثرو حيث أوكل د.مجدي إلى البروفيسير (دونالد روس) استكمال جراحة المريض وما إن وصلت السيارات قرب مطار (هيثرو) حتى تلقى اتصالًا هاتفيًا عاجلًا من السيدة جيهان السادات تشكره فيه على تلبية الطلب قائلة إنه لم تعد هناك حاجة للزيارة ففهم على الفور أن الرئيس السادات قد لفظ أنفاسه الأخيرة، والشيء الرائع أن الدكتور مجدي يعقوب يتحدث بهدوء شديد، فضلًا عن الأدب الجم والتواضع الذي تتسم به شخصيته الرائعة في كل الأحوال، ولقد سألت السير مجدي يعقوب عن صحة ما تردد بأنه اضطر لمغادرة مصر بعد تخرجه فى كلية الطب لأن التعصب الديني بالكلية قد حال دون تخصصه في جراحة القلب وهو فرع يستهويه منذ رحلت عمته مريضة بداء القلب قبل ذلك بسنوات وإذا بالدكتور مجدي يرد علي قائلًا: إنها ليست قضية التعصب الديني ولكن السبب في رأيي هو أنني كنت متمسكًا بهذا التخصص الجديد نسبيًا، وهذه الإجابة الكاشفة من ذلك الجراح العالمي تؤكد حرصه على الوحدة الوطنية وإنكاره أى محاولة لتكريس الطائفية بكل ما تحمله من معانٍ بغيضة ولا عجب أن مشرط ذلك الجراح العالمي قد شق الصدور دون تفرقة بين مسلم ومسيحي فهو ابن الإنسانية ومؤسس جمعية (سلسلة الأمل) التي تزمع إنشاء مستشفى حديث في مدينة أسوان سوف تصل تكاليفه إلى ثلاثمائة وخمسين مليون دولار، وقد استطرد السير مجدي يعقوب ومديرة المتحف وزوجها في الحديث عن مصر وأهمية دورها الحيوى، وكيف أنها بلد منجب للعلماء والشخصيات الدولية المرموقة، وقد بدأوا يتحدثون عن المزادات التي يقيمونها لدعم المشروعات الخيرية لجراح القلب العالمي من خلال القيام باختيار بعض القطع الأثرية أو مقتنيات المشاهير وتوظيف ذلك من أجل جمع أموال خيرية لذلك البطل الإنساني الذي يقدره الجميع.
لقد كان لقاءً مثيرًا جمعني بالجراح المصري الأصل الذي يحكي أحيانًا أنه كان طفلًا صامتًا قليل الكلام بشكل ملحوظ حتى إن والده لم يتوقع له في البداية النجاح الباهر في دراسة الطب، ولكن مجدي يعقوب تفوق على كل التوقعات وكان بحق نموذجًا يهتدى به كل من يريد أن يعرف المعاني الإنسانية النبيلة أو الرسالة الأخلاقية المتميزة لرجل ارتبطت عائلته بمحافظة المنيا ثم تنقل مع والده بين المحافظات المختلفة، ولا شك أن ذلك كله هو جزء أصيل من مكونات ذلك الملاك البشري الذي نزهو به ونفاخر بالانتساب إليه، أيقونة رائعة في حياتنا بكل ما فيها من معاناة وأمل، وتحديات ومشكلات، ولكنها في النهاية إرادة الحياة التي لن يقهرها أحد.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47951
تاريخ النشر: 20 مارس 2018
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/642735.aspx