منذ عدة سنوات ومع بدايات الأزمة السورية وعندما بدأ يلوح فى الأفق أنها تتجه إلى أن تكون أكثر تعقيدًا وتشابكًا قرر الأمين العام للأمم المتحدة مع جامعة الدول العربية إيفاد مبعوث أممى يمثل المنظمتين للالتقاء بكل الأطراف ورفع تقرير دورى لعله يسهم فى الخروج من الأزمة وإيقاف المأساة خصوصًا أن نزيف الدم كان قد بدأ يتدفق على الأراضى السورية، وكان هذا المبعوث الأممى هو السيد (الأخضر الإبراهيمي) وزير خارجية الجزائر الأسبق وهو دبلوماسى مخضرم كان ذات يوم مديرًا لمكتب جبهة التحرير الجزائرية بالقاهرة، وله تجارب فى العمل الدولى والإقليمى تبدو متميزة للغاية، وقد بدأ ذلك الدبلوماسى السياسى مهمته بالدعوة إلى جلسة حوار بمنزله فى القاهرة دعا إليها عددا من المثقفين والمفكرين المصريين، وكان من بينهم وزراء سابقون للخارجية وبعض كبار العاملين فى جامعة الدول العربية وبعض رجال الإعلام من المعنيين بالقضية السورية، وأتذكر جيدًا أنه عندما جاء دورى فى الحديث قلت للجميع : إن الدور الروسى فى الأزمة السورية سوف يتزايد، وقد يكون من الفاعلية بقدر أكبر مما نتصور الآن واندهش معظم الحاضرين لهذه المداخلة ورأى بعضهم أن فى ذلك قفزا على الواقع إذ لم تكن روسيا الاتحادية قد تورطت فى الأزمة السورية ولم يكن بشار الأسد قد زارها على النحو الذى أدى إلى حسم المعارك لمصلحته بعد أن كاد نظامه يسقط، وشرحت وجهة نظرى وهى أننى مؤمن بالأهمية القصوى لسوريا بالنسبة لروسيا فى مراحلها المختلفة من (روسيا السوفيتية) حتى (روسيا بوتين) وعرضت دفوعى بوضوح، وفى مقدمتها لهاث الدب الروسى فى اتجاه المياه الدافئة على شاطئ المتوسط، فضلًا عن وجود قاعدة بحرية فى (اللاذقية) يعتبرها الروس آخر قواعدهم فى المنطقة، كما أن سوريا بلد يقع فى موقع استراتيجى حساس للغاية فهى تجاور تركيا وإيران والعراق والأردن ولبنان وإسرائيل، فضلًا عن دورها المحورى فى العمل العربى وتاريخها فى الحركة القومية، بل وأضفت إلى ذلك قائلًا: إن الغرب والولايات المتحدة الامريكية يسلمون فى أعماقهم بهامش من اهتمام (موسكو) بالموقع الجغرافى السورى والعلاقات المتنامية مع (دمشق) حتى قبل الوحدة المصرية السورية، وكيف أن اليسار العربى الرافض للتسويات مع إسرائيل كان دائمًا يتمركز فى دمشق ويجد فى روسيا حضنًا لا يبرحه فى معظم الأوقات، وما هى إلا أسابيع قليلة إلا وأثبتت الظروف سلامة مقولتى وصدق التحليل الذى طرحته من قبل، فقد ألقى بوتين بثقل بلاده داعمًا بشدة نظام الأسد وبدأت بعدها ظاهرة (البراميل المتفجرة) التى تسقطها الطائرات بل وتدخل الروس إلى جانب الحرس الثورى الإيرانى لدعم الرئيس بشار الذى ظل صامدًا فى موقعه حتى الآن رغم الضربات المتتالية، ومحاولات التأديب بدعوى استخدامه الأسلحة الكيماوية ضد أبناء الشعب الثورى أو الجماعات المتطرفة أو حتى فلول الإرهاب الذى يعشش فى أركان المنطقة كلها، وهنا يهمنى أن أضع القارئ أمام الملاحظات التالية:
أولًا: إن رد الفعل الروسى الأخير تجاه الضربة الثلاثية لبعض المواقع السورية هو تصرف مؤقت بل ومحسوب، كما أننى أزعم أن من وجهوا الضربة كانوا يدركون ذلك قبلها ولم يتحسبوا كثيرًا لموقف موسكو المنتظر، لأنهم يدركون أن التسوية قادمة بعد تصعيد متبادل من جميع الأطراف صراعًا على (الكعكة السورية) وهى الأهم والأشهى فى المشهد العربي! كما أنهم يدركون أن للروس اهتمامًا تاريخيًا بهذه الدولة سيئة الحظ، والغرب يعترف أحيانًا بخصوصية العلاقة بين موسكو ودمشق فى كافة المراحل.
ثانيًا: إننى أظن ـــ بخلاف كثير من الخبراء والمحللين ـــ أن الأزمة السورية تتجه إلى نهايتها والتى سوف تكون بالضرورة على حساب الشعب السورى وأرضه وسيادته ولكل طرف أهدافه فتركيا لها مطامع أرضية ومحاولات تعقب للأكراد على الحدود المشتركة وإيران تتطلع الى استمرار الحكم العلوى بسوريا حتى لو اختفى بشار الأسد، أما سوريا فهى الدولة العربية الأهم سياسيًا واستراتيجيًا بالنسبة لطهران، أما الروس فالساحل السورى على البحر الأبيض يداعب خيالهم صباح مساء وتبقى الولايات المتحدة الأمريكية هى منفذة لاستراتيجية تتفق فيها مع إسرائيل التى تسعى لإضعاف الكيان السورى وتمزيقه إذا لزم الأمر حتى لا تظل دمشق نتوءًا فى ساحة المشرق العربي.
ثالثًا: يظل الموقف المصرى أكثر المواقف العربية والدولية شرفًا والتزامًا، فمصر لم تأخذ موقفا مؤيدًا أو معارضًا لطرف بعينه بل دافعت عن الأرض السورية، وطالبت برفع المعاناة عن شعبها الشقيق الذى تربطه بالشعب المصرى وشائج إنسانية وتاريخية بغير حدود، فقد كانت الدولتان داخل كيان سياسى واحد مرتين الأولى تحت سيطرة إبراهيم باشا ابن محمد على (1831-1840) والثانية فى دولة الوحدة (1958- 1961) وسوف يذكر السوريون أن الدبلوماسية المصرية قد صوتت بالإيجاب على قرارين ذات يوم واحد فى الأمم المتحدة أحدهما روسى والثانى فرنسي، وكان السبب فى ذلك أن مصر تسعى إلى رفع المعاناة عن الشعب السورى مهما يكن الثمن، ولم تكترث القاهرة بالانتقادات التى وجهت إليها بل ودفعت ثمنًا مرحليًا لذلك فى علاقاتها ببعض أشقائها الأقربين. هذه رؤية نطرحها بإيمان كامل بوحدة الشعب السورى وسلامة أراضيه معلنين أن المساس بذلك هو بداية انهيار كامل للمشرق العربى كله، لأن سوريا دولة مهمة ومحورية، وقد قال شوقى أمير الشعراء (وعز الشرق أوله دمشق)!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47986
تاريخ النشر: 24 أبريل 2018
رابط المقال: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/648104.aspx