كنت أفكر كثيرًا فى قضية التفاوت فى مستويات التعليم ونوعياتها وأساليبها فى بلادنا، وكان أشد ما يقلقنى هو المظهر الطبقى للتعليم فى المدارس والجامعات، لقد كانوا يقولون دائمًا إن التعليم هو البوتقة التى تنصهر فيها شخصية الأمة ويتجانس من خلالها أبناء وبنات الوطن فى نسيج واحد يعبر عن هوية الشعب وأيضًا وحدة الدولة، وكانوا يضيفون أن التعليم والتجنيد كلاهما وجهان لعملة واحدة هى الشخصية الوطنية التى لا تفرقة فيها بين غنى وفقير أو بين مسلم ومسيحي، فالتعليم يمكن أن يكون هو التعبير الحقيقى عن سقوط مظاهر التمييز وانقضاء دعاوى التفرقة بين أبناء الوطن من الطفولة حتى الجامعة، وذلك يقتضى بالدرجة الأولى الاهتمام بالتعليم العام فهو الأساس وكل ما جاء بعده مكملات ليست كلها مقبولة من الناحية التعليمية أو التركيبة الاجتماعية فالمدخلات مختلفة والمخرجات متباينة، لذلك عكفت دائمًا على التفكير فى هذا الأمر ووجدت أن كل ما يتصل بالشأن العام فى بلادنا يحتاج إلى نظرة تكون هى الخلاص مما نحن فيه، فنحن فى حاجة إلى التعليم العام، وإلى النقل العام، وإلى التأمين الصحى الشامل وذلك كله من أجل رعاية الطبقات الأكثر عددًا والأشد احتياجًا فضلًا عن أن ذلك يؤدى إلى الاندماج الإنسانى والارتباط الوثيق بين قطاعات الشعب وطوائف الوطن، وكانت المفاجأة التى أسعدتنى أنه فى اجتماع السيد رئيس الجمهورية مع مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية - وهم رؤساء دول سابقون فى معظمهم - فوجئت بالرئيس يفتح مسألة التعليم فى إطار قضية العدالة الاجتماعية، وهنا شعرت أن هناك من يسبقنى فى الفكر الصحيح ويرى ما يجب رؤيته، فالتعليم بحق هو قضية عدالة اجتماعية قبل أن يكون قضية معرفة وعلم ورؤية، ويكفى هنا أن ندرك أن مدارسنا العامة من قبل كان ينخرط فيها أبناء الشعب المصرى من كافة الطبقات دون تفرقة، وهنا أبادر لأطرح الملاحظات التالية:
أولًا: أتذكر أن أحد أقاربى قال لى إنه كان يدرس فى إحدى المدارس الحكومية بالقاهرة فى ثلاثينيات القرن الماضى وكان يجلس إلى جانبه أحد أبناء ناظر الخاصة الملكية، أى أن التعليم وقتها كان يساوى بين الرؤوس ويزيل الفوارق الطبقية والوظيفية ويسمح بالاندماج الكامل لأبناء الوطن الواحد دون تفرقة أو تمييز وذلك بخلاف ما نراه اليوم من تفاوت واضح واختلاف فاضح بين مستويات التعليم المختلفة، فهناك تعليم الأغنياء فى جانب وتعليم الفقراء فى جانب آخر، وذلك أمر خطير بالنسبة لمستقبل الوطن - أى وطن - ومع ذلك فإن التعليم العام يقذف بين حين وآخر بنماذج متألقة وعبقريات مبكرة، فالمال والنفوذ لا يصنعان بالضرورة تفوقًا علميًا أو نجاحًا وظيفيًا، ولا أنسى أبدًا لقائى بالفتاة الرائعة التى تفوقت فى الثانوية العامة عام 2017 وتصدرت الناجحين فيها وهى (ابنة بواب) معتزة بنفسها وبكرامة والديها وعندما وجدتها تعرفنى شخصيًا قلت لها لابد أنك شاهدتينى فى أحد البرامج التليفزيونية فقالت بلا تردد: لا فليس لدينا تليفزيون! ولكنى عرفتك من بعض الصحف، ويومها شعرت بفداحة الخطأ الذى نقع فيه والمشكلة التى تواجهنا فى الحاضر والمستقبل .
ثانيًا: أتذكر وأنا طالب فى مدرسة دمنهور الإعدادية وكانوا يسمونها (المدرسة الميري) باعتبارها المدرسة الحكومية الرسمية أن كان أصحاب المجاميع المنخفضة والنتائج المتراجعة يدفع بهم آباؤهم القادرون إلى المدارس الخاصة، لذلك كنا ننظر نحن طلاب المدارس الحكومية باستعلاء لطلاب المدارس الخاصة لأنهم لم يلحقوا بالتعليم العام وكبدوا ذويهم مصروفات لتغطية الفشل الدراسى لأبنائهم، وقد أصبح الحال الآن مختلفًا وأضحى الأمر عكسيًا فتلاميذ المدارس الخاصة هم الذين ينظرون الآن بشيء من التعالى لأشقائهم فى الوطن ممن لا يجدون طريقًا للتعليم إلا المدارس الحكومية بكل ما فيها من مشكلات ومعوقات، ولنا أن نتصور ما سوف يؤدى إليه هذا الوضع على المدى الطويل هل يستطيع تلميذ خريج أحد المدارس الأمريكية فى القاهرة أن يتعامل مع تلميذ آخر من خريجى أحد المعاهد الدينية أو المدارس الحكومية العامة! إن الأمر يحتاج إلى نظرة عادلة وموضوعية لأنه أمر جد خطير وسوف تكون له نتائجه على وحدة الوطن وتماسك أطرافه ولهذه الأسباب أيضًا انقسم المجتمع بين من يملكون ومن لا يملكون فسرى فيه التطرف واستبدت به الأصولية وغابت عنه العدالة.
ثالثًا: يبقى التعليم العام - برغم كل المصاعب والمتاعب - هو مستودع الكفاءات العلمية والثقافية والفكرية فى بلدنا بل إن كل الرموز التى نراها هم من خريجى المدارس العامة والجامعات الحكومية وليس ذلك طعنًا فى سواهم، ولكن لأننا نؤمن بأهمية ذلك النمط من التعليم الذى يتجه إلى أبناء الوطن بلا تفرقة ولا تمييز، ولقد حدثنا السيد رئيس الجمهورية فى ذلك اللقاء الذى أشرت إليه مع أعضاء مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية إلى اهتمامه بإحداث توءمة وتزاوج بين الجامعات المصرية الحكومية وجامعات الصف الأول فى أنحاء العالم من الخمسين جامعة التى تتصدر ترتيب الجامعات المعاصرة، وقال الرئيس فى أسى إنه فوجئ أن تلك الجامعات تطلب بداية ما يقترب من خمسين مليون دولار حتى تتم الخطوات الأولى لدراسة التوءمة المطلوبة، فالرئيس يريد أن ينهض بالتعليم ويدرك تكاليفه الباهظة ويعلم جيدًا أن التفاوت الطبقى ينعكس على نوعيات التعليم ويدرك جيدًا أن التعليم هو فى النهاية قضية عدالة اجتماعية كما قال فى ذلك الاجتماع المشار إليه.
إننا ندق الأجراس عاليًا ونلفت نظر الجميع إلى أن الأصل هو التعليم العام مثلما أن الأصل هو النقل العام والمستشفى العام فتلك هى رسالة الدولة تجاه مواطنيها وهى تدرك ذلك جيدًا، ولكنها تضيف إلى ذلك أيضًا القول بأن العين بصيرة ولكن اليد قصيرة، وسوف نواصل بلا كلل طرق هذا الموضوع شديد الحساسية لأنه يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالمستقبل ويربط بين العملية التعليمية وبين الظروف الاقتصادية، وسوف نظل نتطلع إلى يوم نشعر فيه بديمقراطية التعليم وشيوع العدالة الاجتماعية بين أطرافه.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الأهرام العدد 47993
تاريخ النشر: 1 مايو 2018
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/649231.aspx