أستأثرت مسألة العلاقة بين المثقف والسلطة باهتمام كثير من المفكرين و خبراء نظم الحكم وكبار المثقفين، وحمل الكثيرون على المثقف المصرى علاقته الوثيقة بالسلطة وولاءه لها وحرصه على الاقتراب منها وانقسم أصحاب الآراء إلى اتجاهين رئيسيين، الأول يرى أن المضى فى ركاب السلطان وممالأة السلطة هو نوع من النفاق السياسى الذى يعبر عن انتهازية حقيقية وضعف فى منظومة القيم لدى أصحاب هذا الاتجاه، بينما رأى آخرون أن الاقتراب من السلطة الحاكمة هو نوع من الولاء للشرعية بغض النظر عن نوعية تلك الشرعية أو الأيديولوجية المستندة إليها فرئيس الدولة هو رئيس الدولة مهما يكن انتماؤه السياسى ورئيس الوزراء كذلك، وبالتالى فإن العمل فى إطار ما هو قائم قد يكون نوعًا من (البراجماتية) الإيجابية التى تسمح لأصحاب ذلك الاتجاه بأن يغيروا بطريقة عملية بعض ما هو متاح وقد يكون عائد ما يفعلونه أفضل بكثير من عائد أولئك الذين ابتعدوا ووقفوا على الجانب الآخر من النهر يرقبون ما يجرى برفض دائم ونقد سلبى وخصومة مستمرة، وفى ظنى أن هاتين المدرستين - فى الفكر السياسى المعاصر - تعكسان إلى حد كبير تلك المواجهة وذلك التضارب الذى يمكن أن يحدث بين الرؤى المختلفة والمدارس المتعددة، ولكى أوضح الصورة أكثر فإننى أدعو إلى تأمل الملاحظات الآتية:
أولًا: لو افترضنا أن هناك مواطنًا سياسيًا مهمومًا بما حوله معنيًا بقضايا وطنه فإنه سوف يتطلع بالضرورة إلى ممارسة دور سياسى ولو بعد حين فإذا كانت دراسته نظرية فإن ذلك مدعاة لأن يشتبك مع النظام السياسى قربًا أو بعدًا نتيجة شعوره بأن تلك هى مهمته بل هى وظيفته أيضًا، أما أصحاب الدراسات التطبيقية أو العلوم البحتة من الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات وأصحاب المهن الحرة كالمحامين والمحاسبين ومن على شاكلتهم فإنهم يظنون دائمًا أن المعارضة السياسية أجدى وأنفع بل هى طريقة أقصر نحو النجومية، فالنجومية ليست فى تأييد النظام السياسى ولكن فى معارضته، وهذه نقطة تستحق التأمل وتفسر إلى حد كبير اهتمام البعض اهتمامًا سطحيًا بالمعارضة وتكريس الاختلاف فى الرأى بل إن بعضهم يمضى أحيانًا وراء مبدأ (خالف تعرف)، وليس يعنى ذلك بالطبع أن كل معارضة سياسية هى تطلع إلى النجومية أو هى نمط من الانتهازية بل الأكثر دقة فى هذه النقطة هو أن نقول إن المعارض قد يستفيد فى نهاية رحلة الحياة أكثر بكثير من ذلك الذى اندرج فى النظام وتعامل معه وحسب عليه.
ثانيًا: إن ذلك الفريق الذى يؤمن أنه يستطيع أن يحدث تغييرًا ولو بنسب محدودة فى سياسات نظام معين - وقد يحقق بعض النتائج الإيجابية فى ذلك - ليس بالضرورة أن يكون فريقًا انتهازيًا إذ إن الإحساس بإمكانية التغيير من داخل النظم يبدو متاحًا فى بعض الأحيان أكثر من تغيير تلك النظم من خارجها، بل إن بعض النظم السياسية تتجمل أحيانًا بعدد من المفكرين والمثقفين الذين ترى فى حضورهم لديها استجلابًا للمصداقية ودعمًا للشرعية واستمالة لبعض العناصر المترددة بين الاتجاهين، وتلك ظاهرة تستحق التأمل وتطبيقاتها كثيرة ونستطيع أن نقول فيها ما يؤكد ذلك بالأمثلة والشواهد.
ثالثًا: إن أزمة المثقفين وارتباطها بأهل الثقة وأهل الخبرة كانت شاغلًا للنظام الناصرى فى منتصف خمسينيات القرن الماضى وتألق الأستاذ محمد حسنين هيكل بسلسلة مقالات حول هذا الموضوع امتلك فيها صاحبها الشجاعة لأن يدعو إلى عدم إهمال أهل الخبرة لمصلحة أهل الثقة، وأذكر أننى ذهبت إلى سكرتيرته الراحلة السيدة نوال المحلاوى فى جريدة الأهرام لأوجه له دعوة من خلالها لإلقاء محاضرة فى هذا الموضوع وكان ذلك فى مطلع ستينيات القرن الماضى عندما كنت فتًى لم يبلغ العشرين، وقد قلت لها يومها بسذاجة: إننى جئت لكى أطلب من الأستاذ هيكل أن يتحدث فى موضوع غير سياسى حتى أعفيه من حرج علاقته بالرئيس ونظامه ولذلك اخترت أزمة المثقفين عنوانًا للقاء بينه وبين طلاب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، حيث كنت رئيسًا لاتحاد طلابها، وابتسمت السيدة ابتسامة ساخرة وقالت لي: كيف تكون طالب علوم سياسية وتتوهم أن أزمة المثقفين هى موضوع غير سياسي؟! إنها تدخل فى صميم الحياة السياسية دون جدال.
رابعًا: إن حيرة المثقف تجاه أى نظام سياسى له شرعية تأتى من ذلك التذبذب الذى يدفعه أحيانًا إلى اتخاذ مواقف من المعارضة فى بعض المرات ومواقف مع نظام الحكم فى مرات أخرى لأنه ينظر إلى الأمر من منظور وطنى وليس يعنيه إطلاقًا أيكون محسوبًا مع النظام أم عليه؟ وأنا أتذكر أن الرئيس الأسبق مبارك كان يتشكك أحيانًا فى ولائى للنظام السياسى القائم وأننى أتخذ بعض المواقف المخالفة ولكن فى إطار قبول عام لوجود ذلك النظام، وكانت كلمته المعتادة هي: إن مصطفى قد ركب مراجيح الهواء فهو معنا أحيانًا وضدنا أحيانًا أخري، وهذا توصيف دقيق وأمين من الرئيس الأسبق كما أنه يعكس بدقة حيرة المثقف الوطنى الذى لا يقبل بالتعميم أو أحادية النظرة ولكنه يؤمن فقط بما لدى الوطن من قدرات وخبرات لو جرى توظيفها فى حياد وموضوعية لأحدثت نقلة نوعية فى أساليب الحياة ونمط السلوك السياسى والاقتصادى والاجتماعى بل والعسكرى أيضًا.
هذه قراءة عاجلة فى توصيف الحيرة التى يعانيها المثقف فى دولنا المختلفة، وهى حيرة يدفع ثمنها ويسعى لإيجاد من يعبر عنها ويظل يتأرجح أحيانًا بين الأحزاب السياسية والمواقف الوطنية حتى يرسو فى النهاية على شاطئ الأمان الذى يجعل علاقة المثقف بالسلطة أمرًا يحسب له وليس ميزة يتكسب منها أو يرتزق من ورائها.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 48007
تاريخ النشر: 15 مايو 2018
رابط المقال: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/651493.aspx