زرتُ العاصمة الرُّوسيَّة «موسكو» مرات كثيرة، وتركت لى فى أول زيارة لها انطباعًا مُذهلاً من جمال مبانيها وضخامتها واتِّساع شوارعها، وقد كانت تلك الزيارة فى ثمانينات القرن الماضى، أى فى ظل الاتحاد السوفيتى، وكُنَّا نرافق الرئيس الأسبق مبارك، وكان معه الدكتور بطرس بطرس غالى، وأخذ الجانب السوفيتى الرئيس المصرى إلى قصر الضيافة، أمَّا نحن فقد أُخذنا إلى فندقٍ كبيرٍ وضخمٍ يقودنا د.بطرس بطرس غالى بخِفَّة ظِله وفهمه الواسع لتلك النُّظم ذات الطَّبيعة الماركسيَّة، بحكم جولاته الدوليَّة وعلاقاته الأكاديميَّة، وأخذ كلٌّ مِنَّا حجرةً واسعةً وفى كلٍّ منها ثلاجة خاوية تمامًا، ثم جاء وقت العشاء، ونزلنا نطلب الطعام، وقد فُوجئتُ بندرته تمامًا، وتمكنوا فى النِّهاية من إعطائنا بعض الخبز وقطع الجبن القادمة من الدول الشرقية، وتساءلت بينى وبين نفسى عن طبيعة ظروف الحياة فى ذلك البلد الضَّخم، وأيقنتُ أن الاستهلاك محكومٌ بضوابط معينة، وأننى قد أكون فى مجتمع فيه الحد الأدنى من الكفاية ولكنه لا يعرف الرفاهية إطلاقًا، بل لقد اكتشفتُ أيضًا أن الحَجْر على الحريات يواكبه أيضًا حَجْرٌ على حرية الاستهلاك، ومكثنا هناك ثلاث ليالٍ لا نأكل فيها إلا الحد الأدنى ولا ننعم بطعام كافٍ إلا على المائدة الرئاسيَّة فى حضرة قادة الاتحاد السوفيتى وضيفهم المصرى الكبير، وكانت هذه أول زيارة لى لموسكو، ثم تعددت الزيارات بعد ذلك حتى أصبحت تقترب من سبع أو ثمانى زيارات، وفى كل مرة أشهد جديدًا، وأكتشف تطورًا لم يكن موجودًا، خصوصًا بعد أن جرى التَّحوُّل الكبير بسقوط الاتحاد السوفيتى وظهور سياسات جورباتشوف التى مهَّدت لتغيير ضخم نزع آخر معاقل روسيا السوفيتيَّة، وكُنَّا نتردد على مبنى الكرملين، وهو واحدٌ من أجمل المبانى التى رأيتها فى حياتى.
ومنذ سنوات قليلة جرى تعيين زوج ابنتى الكبرى سفيرًا فى موسكو، فأصبحنا نتردد عليه مرَّة كل عام، ونزور المتاحف ونرتاد المطاعم الرَّاقية، فقد تغيَّرت الدنيا وتحوَّلت موسكو ليجد فيها المرء أزياء وأطعمة ربما لا يمكن الحصول عليها فى دول أوروبا الغربية، بل إننى أزعم أننى شهدت فى العاصمة الروسية مطاعم رائعة تحتل قصورًا عريقة يصعب وصف جمالها، ولاحظتُ أن الوفرة على الموائد قد بدأت تمحو من ذاكرتى تمامًا مصاعب الزِّيارة الأولى، وفهمتُ أن التَّغيير الهائل قد شمل جميع مناحى الحياة، ثم بهرنى فى آخر زيارة ذلك المسجد الضَّخم الذى يبدو آيةً فى الجمال فى وسط العاصمة الروسية، حيث أديتُ صلاة الجمعة هناك، ورأيتُ ألوانًا من البشر من أصول قوقازية وأخرى من منطقة بحر البلطيق وثالثة من شرق آسيا وشمالها وجنوبها، فضلاً عن وجوه أوروبية عادية، وهذه كلها أمور تُعلِّم الإنسان أن التَّعايش المُشترك تجربة يجب الاعتزاز بها والسعى للوصول إليها والبناء عليها من أجل المستقبل.
وقد آمنتُ أن الشَّعب الرُّوسى يحمل بعض صفات «الدب القطبى»، حيث تعوَّد الناس هناك أن يتعاملوا بحذرٍ دفينٍ ورغبةٍ عارمةٍ فى الاستمتاع بالحياة بعد سنوات الانغلاق التى طالت لما يزيد على سبعة عقود، وقد لفت نظرى وأنا سفير فى «فيينا» وصول الآلاف من أثرياء روسيا ومعهم أموال بلا حدود، فيتساءل المرء: كيف حصلوا عليها؟ وكيف جمعوها فى ظل روسيا السوفيتية؟ وهل هى نتاج لعمليات غسيل الأموال أم هى وليدة لأنشطة المافيا الروسية التى لا تقلُّ خطورةً عن المافيا الإيطاليَّة؟ ومازلتُ حتى الآن مبهورًا بضخامة مدينة موسكو ومبانيها التى تُعدُّ تعبيرًا عن ثقافةٍ مُتميزةٍ جرى الضَّغط عليها لسنوات طويلة ولكن روحها ظلَّت كامنةً لتعود من جديد بعد أن سنحت الظروف وتغيَّرت الأزمنة وتبدَّلت الأحوال.. إنها «روسيا» القيصرية، «روسيا» الثورة السوفيتية، «روسيا» الاتحادية، وقد عرف المواطن فى تلك البلاد الواسعة شديدة الثَّراء بالموارد الطبيعية ألوانًا من الحُكم وأشكالاً من السُّلطة، وخاضت بلاده الحروب وعرفت المآسى الكبرى وذاقت طعم الانتصارات والانكسارات وبقيت فى النهاية هى «روسيا» الباحثة عن المياه الدَّافئة على شواطئ البحار فى البلقان والشَّرق الأوسط وفى كلِّ مكان!
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 269
تاريخ النشر: 13 مارس 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a3%d9%88%d9%84-%d8%b2%d9%8a%d8%a7%d8%b1%d8%a9-%d9%84%d9%85%d9%88%d8%b3%d9%83%d9%88/