لا أزال أذكر ذلك اليوم ولن أنساه أبدًا، لقد كان يومًا بدأ بالإثارة ثم انتقل بنا إلى القلق، وما أن أقبل المساء إلا وقد بدأت الشكوك الحزينة تسيطر على الكثيرين منا، خصوصًا أولئك الذين وصلتهم معلومات أجنبية تتحدث عن هول القتال وتحطيم الطيران المصرى مع إشارة إلى بوادر الهزيمة، لقد كنت قد تجاوزت الثانية والعشرين وكنت عضوًا فى منظمة الشباب مسئولًا عن برامج التثقيف فى العاصمة، وكنت قد تخرجت قبلها بعام واحد فى كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة ضمن جيل كامل يمتلئ حماسة للمستقبل ويرتبط ارتباطًا شديدًا بالزعيم عبد الناصر ويرى أن طلوع الفجر وشيك، وأن مهرجان النهار سوف يضيء أركان مصر التى تصورنا وقتها أنها تملك أقوى قوة ضاربة فى الشرق، ولكن الرياح أتت بما لا تشتهى السفن وواجه العرب محنة كبرى تمثلت فى نكسة يونيو عام 1967 ، ووقف عبد الناصر صامدًا لا ينحنى ولا يتراجع بل انخرط فى عملية صعبة لإعادة بناء القوات المسلحة ومواجهة الموقف الذى وجد العرب أنفسهم فيه بين عشية وضحاها إذ لم يكن سيناريو الهزيمة واردًا على الإطلاق، بل لقد دخلت الجيوش العربية - خصوصًا الجيش المصرى - إلى آتون حرب الأيام الستة التى فرض فيها الإسرائيليون التوقيت الذى يريدون، ولم يكن لدينا سيناريو آخر وهو الأسوأ ذلك الذى يرتبط باحتمالات هزيمة إذ لم تكن واردة على الإطلاق فى العقل العربى وتلك فى ظنى واحدة من أكبر أخطائنا، ذلك أننا لا نؤمن إلا بما يرضينا ولو لحظيًا ويكون مادة للاستهلاك ولو داخليًا فلم نضع احتمالات أخرى أمام قواتنا المسلحة التى ظلمت ظلمًا بينًا لأنها لم تحارب، ولكنها خرجت فى مظاهرة حاشدة انتهت بالعودة تحت شمس سيناء الملتهبة فى شهر يونيو منذ أكثر من واحد وخمسين عامًا، ولقد تغيرت ملامح الحياة بعد تلك الهزيمة على امتداد الخريطة العربية كلها ومازالت آثار ذلك تتعقبنا حتى الآن ولعل إعلان الإدارة الأمريكية مؤخرًا اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارتها إليها هو آخر التداعيات المنظورة لنكسة 1967 ، ولقد اعترف عبد الناصر بمسئوليته عما جرى فى خطاب حزين مازال هو الأشهر فى تاريخنا الحديث كما أنه تصرف كالأسد الجريح واختار القتال أسلوبًا لمواجهة الهزيمة وأعلن أن (ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة) كما قام بإجراءات مطلوبة أهمها سحب قواته من اليمن وإسقاط سطوة جهاز المخابرات العامة حينذاك بسبب انحرافه عن مهامه الأصلية، فضلًا عن تصفية الحراسات وتصحيح جزء كبير من أخطاء المرحلة السابقة بل إن الذى يقرأ محاضر جلسات اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى فى النصف الثانى من عام 1967 سوف يندهش تمامًا لدرجة الشفافية والوضوح والنقد الذاتى الذى مارسه عبد الناصر فى فترة حكمه هو ورفاقه، إن 5 يونيو 1967 ليس يومًا منشئًا فى تاريخنا، ولكنه حدث كاشف يؤكد أهمية الديمقراطية الحقيقية، وضرورة الإيمان المطلق بإرادة الشعب وإسقاط الفواصل والحواجز بين السلطة والجماهير، ولقد أبرزت السنوات من 1967 حتى 1973 المعدن الحقيقى للشعب المصرى الجسور الذى أغرقت قواته المسلحة المدمرة إيلات، وصمد الشعب الباسل فى مواجهة أحداث (الزيتية) و(بحر البقر) بل ودخل معركة (رأس العش) بعد أقل من أسبوعين من بداية النكسة وهو أيضًا الشعب الذى أقام عماله حائط الصواريخ للتصدى لعربدة إسرائيل الجوية والعبث بسماء مصر، وعندما رحل عبد الناصر تحمل أنور السادات المسئولية ومضى على الطريق الباسل بحرب الاستنزاف وصولًا إلى حرب العبور العظيم التى قهرت أكبر مانع مائى فى التاريخ الحديث وحققت نصر أكتوبر المجيد، وقد احتفلنا بذكرى العاشر من رمضان منذ أيام قليلة، إنها خواطر وذكريات اعتادها أبناء جيلى ممن شهدوا تلك الأيام العصيبة فى تاريخنا الحديث وهنا يعين لى أن أطرح ملاحظتين:
الأولى: إن الهزائم هى نكبات ونكسات ومحن يمكن أن تزيد الشعوب صلابة، وأن تجعلها أكثر قوة وصمودًا، ولاشك أن نكسة يونيو قد تركت بصمة حزينة على وجه مصر، ولكنها أيضًا أكسبتها شعورًا بالصحوة يجعلها أكثر واقعية وبعدًا عن الشعارات واقترابًا من الحقيقة ولقد عرفت أمم الأرض وشعوب الدنيا الهزائم والنكسات كما عرفت السقوط والانتصارات وفى كل الأحوال تختلف الأمور بعدها عما كانت قبلها.
الثانية: إن حرب يونيو عام 1967 قد سمحت بتطوير شامل للقوات المسلحة المصرية على نحو وصل بها لأن يكون جيشها واحدًا من ضمن العشرة الأوائل بين جيوش العالم، فالجيش الذى ذاق مرارة الهزيمة هو ذاته الجيش الذى عرف حلاوة النصر وأصبحت قدرته القتالية محل تقدير واحترام حتى إننى سمعت وزير الدفاع الأمريكى فى إدارة أوباما وهو يقول فى حديث معلن العبارة التالية: (ويبقى الجيش المصرى هو أقدم وأكبر جيوش المنطقة وأكثرها مهنية).
إن الآلام العظيمة تصنع الأمم العظيمة كما أن المعاناة القاسية تفتح طاقات الأمل أمام الشعوب المتحضرة، ولا شك أن مصر بل والعرب جميعًا بعد يونيو 1967 يختلفون عما كانوا عليه قبلها ويدركون العدو من الصديق ويميزون بين الدول والسياسات والمواقف، وسيظل يوم 5 يونيو يضفى غيامة من الحزن النبيل على ذلك الشعب العريق الذى صنع الحضارات، واستوعب الثقافات وآمن بالديانات، وظل نموذجًا للتسامح الإنسانى وتعبيرًا عن عبقرية الزمان والمكان دون تعصب أو تمييز أو إقصاء.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 48028
تاريخ النشر: 5 يونيو 2018
رابط المقال: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/654541.aspx