واجهت دول كثيرة تجربة الإصلاح الاقتصادي وفقًا لروشتة قدمها «صندوق النقد الدولى» وهي تختلف من بلد إلى بلد وفقًا لأبعاد المشكلة الاقتصادية فيه وقد نجحت خطة الصندوق في بعض الدول ولم تحقق النجاح الكامل في بعضها الآخر، بينما فشلت إلى حد كبير في حالات أخرى، والصندوق إذ يقدم دوره للتعافي من أزمة اقتصادية حادة فإنه يفعل ذلك غالبًا طبقًا لمعايير اقتصادية صماء ولا تعنيه بالطبع ردود الفعل ولا كيفية توزيع تكاليف ذلك الإصلاح على فئات شعب معين، وفي حالتنا المصرية كان هدف «صندوق النقد الدولى» هو الرفع التدريجي للدعم عن السلع والخدمات حتى تقترب كل منها من سعرها العالمي وليس ذلك أمرًا يسيرًا في دولة تعودت على أن تعول أبناءها في ظل تدني مستوى المعيشة ومحدودية الدخول نتيجة الضعف النسبي للدخل القومي وفي الحالة المصرية أيضًا فإن الدولة تستهلك «على النوتة» أو تستورد أحيانًا بطريقة «الشكك» إذا جاز التعبير، كما أن «مصر» بحكم دوريها الإقليمي والدولي قد تعودت على معونات الأشقاء وقروض الأصدقاء لأن «مصر» دولة مركزية محورية تقدم دورًا سياسيًا وتستقبل دعمًا اقتصاديًا وتلك معادلة لا تغيب عن كل دارس لتاريخ الاقتصاد المصري الحديث، وقد نجم عن ذلك كله أن تميزت الحالة المصرية بقدر كبير من الخصوصية مما أدى إلى صعوبة الإصلاح الاقتصادي وارتفاع تكاليفه على ما كان يسمى الطبقة الوسطى وما دونها فضلًا عن ضعف هياكل الإنتاج في الوفاء بالتزامات الصندوق وشروطه دون معاناة قاسية للمستهلك المصري، ولعلنا نشير هنا إلى خصوصية التجربة المصرية من خلال المحاور التالية:
أولًا: إن الذي يفكر في ولوج ذلك الطريق الصعب المتمثل في تنفيذ شروط (صندوق النقد الدولي) ومطالبه عليه أن يدرك أن الأمر ليس نزهة اقتصادية أو مباراة في الوطنية ولكن الأمر يتجاوز ذلك لكي يكون عملية تنموية يجري الاستعداد لها والتحضير لاستقبالها ووضع خريطة زمنية عادلة تحقق التوزيع الأمثل للكلفة الكلية على طبقات المجتمع على أن تتحمل الشرائح العليا من أصحاب الدخول الكبيرة العبء الأكبر بحكم قدرتها وما تحقق لها من إتاحة نتيجة الفرص التي استأثرت بها لتحقيق عوائد ضخمة في العقود الأخيرة، وأحسب أن رجال الأعمال المشهود لهم بالوطنية إلى جانب «اتحاد المستثمرين المصريين» والمؤسسات الأهلية الأخرى تبدو قادرة على تحقيق غاية الإصلاح دون معاناة قاسية لطبقات غير قادرة أحيانًا علمًا بأن الاقتصاد غير المنظور يمثل قرابة 60% من المجموع الكلي للنشاط الاقتصادي وهو ما يؤدي إلى شيوع التهرب الضريبي ونقص حصيلة الجمارك عمومًا ولكن الاقتصاد (غير المنظور) ليس نقمة فقط، ولكنه قد يكون أحد المظاهر الإيجابية للدور الذي يلعبه فى ملء الفجوة وتغطية الاحتياجات الأساسية لكثير من الأسر المصرية.
ثانيًا: إن الاقتصاد الموازي الذي نتحدث عنه كثيرًا عند دراسة الحالة المصرية هو أحد مظاهر (الستر الإلهي) للشعب المصري إذ إنه هو ما نطلق عليه اقتصاد (بئر السلم) الذي يتمثل في مجموع الأنشطة الإنتاجية والتجارية غير الموثقة والتي تتحرك خارج نطاق ملفات الدولة وذلك أمر معيب بالطبع وقد يكون مجرمًا من الناحية القانونية، ولكنه يبقى سندًا لقطاع كبير في المجتمع يعيش على تربية الحيوانات أو الدواجن أو التصنيع المحلي لبعض المواد الغذائية، فضلًا عن ممارسة أنشطة خارج دائرة القانون، ولا شك أن إسهام ذلك الاقتصاد الموازي للتخفيف من أعباء الإصلاح الاقتصادي هو أمر مقبول من حيث المضمون حتى ولو كان مرفوضًا من حيث الشكل على اعتبار أنه يجري خارج نطاق التسجيل الضريبي ودفع مستحقات الدولة.
ثالثًا: يجب ألا ننسى أننا خارجون من سنوات شديدة الصعوبة بالغة التعقيد لا من الناحية السياسية فقط ولكن أيضًا من منظورها الاقتصادي، فالمظاهرات والاعتصامات وغياب الأمن في الشارع المصري لعدة سنوات بعد «ثورة 25 يناير» قد أدى بالضرورة إلى انخفاض عجلة الإنتاج وتدهور بعض مظاهر النشاط الاقتصادي وتحول كثير من الشباب إلى نشطاء سياسيين بدلًا من عمال منتجين والاقتصاد الوطني هو الذي يدفع الفاتورة في نهاية اليوم.
رابعًا: لقد جاء الإصلاح الاقتصادي لشعب لم يتعود عليه، دعونا نتذكر ما جرى في يناير 1977 عندما رفعت الحكومة المصرية في عصر الرئيس «السادات» أسعار بعض السلع لقروش قليلة وأيامها قامت الدنيا ولم تقعد فيما أطلق عليه الرئيس الراحل «انتفاضة الحرامية» فالشعب المصري تعود على الاتكال على الدولة ولم يكن مهيئًا لقبول تكاليف الإصلاح خصوصًا أن ارتفاع الأسعار قد اقترن بانخفاض قيمة العملة الوطنية فأصبح التأثير مزدوجًا على معظم فئات الشعب.
خامسًا: إن الإصلاح الاقتصادي أمر لابد منه وكان يمكن تدليل الناس لسنوات قليلة ثم يدفعون ثمنًا أفدح مما هو الآن فترحيل المشكلات والبحث عن الشعبية المؤقتة قد أدى إلى تأخير العلاج وجعل الدواء أكثر مرارة وزرع شعورًا تلقائيًا لدى الطبقات الأكثر عددًا والأشد فقرًا بأنهم وقود التنمية وضحايا الإصلاح في كل الظروف.
إن الدولة تتفهم معاناة مواطنيها، وسوف تسعى لتخفيف الآثار السلبية لمسيرة الإصلاح الاقتصادى، ومعالجة قضية رفع الدعم عن السلع والخدمات بتعويض نقدي لمن يستحقونه .. حفظ الله الكنانة وشعبها في أحلك الأوقات وأمام أصعب التحديات.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الأهرام العدد 48049
تاريخ النشر:26 يونيو 2018
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/657779.aspx