استهلكت قضية الخلافة فى التاريخ الإسلامى المعاصر قدرًا كبيرًا من الجهد والوقت وخلقت من الصراعات أكثر مما صنعت من حوارات وظلت دائمًا هاجسًا يبدو حلمًا لدى كثيرين ممن يرون ارتباطًا بين عصور الإسلام الزاهرة ومفهوم الخلافة، أى إنها قضية تاريخية أكثر منها دينية، وإذا بدأنا بالعام الأول للفتنة الكبرى فإننا نتذكر حوارًا بين معاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص يخاطب فيه معاوية عمرًا بقوله :( إن ما نفعله إنما هو لوجه الله ورسوله) فيرد عليه عمرو بن العاص بدهائه المعهود قائلًا: (ويحك يا معاوية! إن ما نفعله إنما هو لدنيا نطلبها ونبتغى الجاه فيها) وهذا الحوار البسيط يجسد إلى حد كبير كيفية استغلال رسالة الإسلام فى خدمة أغراض دنيوية وتوظيفها فى صراعات حياتية لا تتوقف، ولعلنا نضرب أمثلة أخري:
أولًا: بعد سقوط حكم آل عثمان وانهيار دولة الخلافة التى ظلت تحتضر لأكثر من قرن كامل تحت مسمى (رجل أوروبا المريض) فإن التطلع إلى وراثة العثمانيين قد ظهر بشكل واضح، وانعقدت مؤتمرات للخلافة فى لندن بل وفى الهند وغيرها من العواصم التى يعيش فيها مسلمون وظهرت قوى ثلاث يرى كل منها الأحقية فى الخلافة وأولهم الهاشميون من أبناء (الشريف حسين) الذى كان قابعًا فى قبرص يعانى الإحباط بسبب الخديعة التى مارسها عليه البريطانيون الذين حارب فى صفوفهم فى الحرب العالمية الأولى فى ظل وعود كاذبة وأوهام تبخرت مع انتصار الحلفاء ووصولهم إلى الغايات التى حاربوا من أجلها، والفصيل الثانى من المتطلعين للخلافة الإسلامية ولو بشكل مختلف هم (آل سعود) فى نجد والحجاز بعد أن بسط (عبد العزيز الكبير) سلطانه الكامل على الجزيرة العربية، أما المنتظر الثالث فكان هو (الملك فؤاد) حفيد محمد على وعاهل مصر الذى زينت له سلطته ذلك الحلم فى أكبر دولة عربية باعتباره وريث محمد على ذلك الحاكم القوى فى مصر والشام وأطراف الحجاز، ولقد استبد الوهم بالملك فؤاد إلى أن جاءته اللطمة الكبيرة من خلال الصفعة القوية التى وجهها الشيخ على عبد الرازق الصعيدى النشأة، الإسلامى التربية، الفرنسى الثقافة، حيث أصدر كتابه الشهير (الإسلام وأصول الحكم) ليبدد لدى الملك ما كان يتوهمه أو يتوقعه لذلك كان العقاب شديدًا خصوصًا من جانب الأزهر الشريف الذى جرد ذلك الشيخ المستنير ابن المنيا فى صعيد مصر من لقبه ودرجته العلمية تملقًا للملك فؤاد وتأكيدًا لحجم الصدمة التى أصابت العرش الملكى فى مصر.
ثانيًا: لم يقف الأمر عند هذا الحد بل إنه امتد إلى الملك فاروق بن فؤاد حيث زين له البعض أن يكون خليفة للمسلمين حتى أطلق الملك لحيته وظل يكرر أدبيات الإخوان المسلمين وبعض القطاعات السلفية بشكل لا ينم عن عمق فى الدراسة، أو فهم صحيح للإسلام.
ثالثًا: وصل الفاروق إلى العرش صغيرًا فزين له بعض معاونيه ومستشاريه بل وخدمه المحيطين به التعلق بأهداب الخلافة، ولقد حدث فى القمة العربية الأولى فى مدينة (إنشاص) ما يمكن أن نعول عليه إذ دفعت المراسم الملكية بالفاروق لكى يؤم المصلين من ملوك ورؤساء فى إشارة إلى أحقية مصر فى الخلافة إذ إن حفيد محمد على هو الأجدر بها، وهكذا ظل حلم الخلافة يراود العائلات الكبرى خصوصًا فى مصر والشام الكبير والمملكة العربية السعودية.
رابعًا: إننا نعلم جيدًا أن الإسلام يتدخل فى أحوال تابعيه منذ سنوات الطفولة الأولى مرورًا بالزواج والطلاق ويتطرق إلى شئونهم مؤكدًا أن الدين المعاملة لذلك فإننا نرى فى الدين تنظيمًا لأسلوب الحياة، أى اشتباكًا مع المجتمع وليس تدخلًا فى السياسة والحكم كما يتوهم البعض خصوصًا أن تاريخ الحضارة العربية الإسلامية لا يرى الخلافة من منظور دينى، ولكنه يراها من منظور تاريخى بحت، فقصور الخلفاء ومباهج الحياة فى بعض مظاهر التاريخ الإسلامى هى مسائل حياتية حيث يدخل الشعراء يداهنون الحاكم، والمغنون يلعبون على أوتار مشاعره فهى فى النهاية ملك عضود، وباستثناء حكم الخلفاء الراشدين لا نجد امتدادًا حقيقيًا للخلافة الإسلامية إلا فى ومضات عابرة لعلنا نضيف إليها خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز لذلك فإننا نرى أن الذين قالوا بأن (الحاكمية لله) إنما كانوا يتحدثون عن أوهام لا ترقى إلى مرتبة الأحلام، فالله هو الخالق الذى ترتفع مكانته عن شئون الدنيا ومقاصد الحياة.
خامسًا: إن الذين قالوا بأن الدين علاقة بين الخالق والمخلوق أى بين الله والإنسان كانوا هم أكثر الناس شفافية وقدرة على رؤية المستقبل واستشراف ما هو قادم، والذين درسوا الفلسفة الإسلامية يعرفون أن نقطة الانطلاق لدى المتصوفة هى الاعتراف بوحدانية الله والذوبان فى عشقه سبحانه وتعالي، ولحسن الحظ فإنه لا كهانة فى الإسلام ولا وساطة إلا لمن ابتغى من الله الوسيلة، فالدين يقوم على التسامح والمحبة ورحابة الصدر وسعة الأفق كما أن عنصر الإرادة لدى الإنسان لا يبدو معطلًا حتى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فالله يعلم المستقبل ولكنه لا يلغى إرادة الإنسان والعقل لذلك فالخلافة هى صناعة دنيوية وليست إرادة إلهية.
إننى أكتب فى هذا الموضوع المهم تحديدًا بسبب تصاعد نغمة الحديث المتكرر عن نعيم دولة الخلافة وجحيم الدولة المدنية، وذلك أمر يبدو أبعد ما يكون عن روح الدين وتعاليمه الحقيقية.. إن الدين لله وإن الوطن للجميع.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الأهرام العدد 48056
تاريخ النشر: 3 يوليو 2018
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/658902.aspx