هناك دول فى عالمنا المعاصر تتميز بوفرة فى الموارد الطبيعية والموارد البشرية أيضًا وهى دول قليلة يقع بعضها فى الصف الأول من المنظومة العالمية، وهناك دول أخرى تفتقر إلى أحد الموردين ومصر تحديدًا أقرب إلى هذا النموذج إذ أنها تتمتع بوفرة هائلة من الموارد البشرية فى كافة التخصصات ومختلف فروع المعرفة، ولاشك أن الاستثمار فى العنصر البشرى هو الأجدى على المدى الطويل فدولة مثل اليابان فقيرة فى الموارد الطبيعية ولكنها غنية بالعنصر البشرى وخصائصه المتميزة بل إن سويسرا أيضًا فى قلب أوروبا تمثل نموذجًا يقترب من ذلك، ونحن هنا فى مصر نمتلك مقومات بشرية فاعلة ليس لأن المعدلات العمرية تميل فى معظمها نحو الشباب, ولكن أيضًا بسبب جيوش حملة الشهادات من الجامعات المصرية والأجنبية والكل لا ينسى أن الطبيب المصرى هو الذى عالج، وأن المهندس المصرى هو الذى بنى، وأن المعلم المصرى هو الذى درّس، كل ذلك فى وقت كانت فيه المنطقة تسبح فى مياه راكدة بينما الإشعاع ينطلق من على ضفاف النهر الخالد، ويهمنى هنا أن أعرض لعدد من النقاط المتصلة بقضية الموارد:
أولًا: تحضرنى الآن دولتان إحداهما أجنبية والثانية عربية وأحسبهما نموذجين لدراسة الدولة التى تتمتع بالموارد البشرية والطبيعية معًا، فـ (روسيا الاتحادية) بسبب اتساع رقعتها الجغرافية واختلاف المناخ بين أجزائها وامتدادها الآسيوى الأوروبى تملك من الموارد الطبيعية ما لا يملكه سواها ربما باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية، ولقد سمعت الرئيس الروسى (بوتين) يتندر على من يحاولون مقاطعة بلاده اقتصاديًا قائلًا: إننا نستطيع أن نعيش دون حاجة لغيرنا، أما العراق ومعناها (أرض السواد) فهى تملك التربة الخصبة والوفرة فى المياه والنفط معًا وهذا أمر نادر, فضلًا عن كفاءات بشرية مدربة فى معظم التخصصات مثلما أن روسيا تملك كوادر بشرية متميزة أيضًا ولكن العالم لا يمضى على وتيرة واحدة فليست الدنيا كلها هى روسيا أو العراق أو أمريكا إذ أن هناك عوامل تلعب دورًا فى تعطيل حركة الدولة مهما تكن مواردها، ولعل النموذج العراقى هو خير شاهد على ذلك حيث إنه رغم وفرة موارده ـ طبيعية وبشرية ـ إلا أنه دفع ضريبة غالية بسبب ذلك فكانت موارده نقمة عليه وليست نعمة ومصدرًا للأطماع فى كل العصور.
ثانيًا: إن الكتلة النامية فى العالم المعاصر خصوصًا فى مجالى الصناعة والسياحة هما الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية وذلك لا يقلل من الصحوة القوية للمثلث الآسيوى (الصين واليابان والهند) وذلك يعنى أن الموارد فى النهاية هى الفيصل فى التمييز بين مستويات المعيشة فى أى دولة، ولابد أن نشير هنا إلى أن تميز العنصر البشرى يبقى فى كل الحالات علامة مضيئة تسمح لبعض الدول بأن تصنع المعجزات وأن تتقدم نحو المستقبل فى ثبات وقوة وليس يعنى ذلك أن لدينا فى العالم (بشرا درجة أولى) و(بشرا درجة ثانية) ولكن الأمر لا يعدو أن يكون ناجمًا عن الاهتمام بالتعليم والرعاية الصحية وإعطاء البحث العلمى الاهتمام الذى يقود نحو التكنولوجيا المعاصرة وبصماتها القوية على جوانب الحياة خصوصًا فى مجال الصناعة.
ثالثًا: إذا ولينا وجهنا تجاه الشرق فسوف نجد أن المارد الآسيوى الذى أطلقنا على بعض دوله فى البداية تسمية (النمور الآسيوية) قد انطلق من عقاله ومضى فى قوة نحو الأهداف العليا لتلك المجتمعات الصاعدة، فما يجرى فى الصين حاليًا هو معجزة بشرية بالدرجة الأولى إذ استطاعت تلك الدولة الآسيوية الكبرى أن تحيل المليار ونصف المليار نسمة إلى قوى منتجة تكاد تغزو العالم اقتصاديًا، ويكفى أن نتذكر أن ما يقرب من سبعين فى المائة من المنتجات الموجودة فى الولايات المتحدة الأمريكية هى صناعة صينية لذلك فإن حديثًا عن حرب عالمية اقتصادية لا يأتى جزافًا إذ تحولت الحرب الباردة والصراع السياسى المكتوم بين الشرق والغرب إلى صراع اقتصادى يسعى كل طرف فيه إلى تحقيق معدلات نمو غير مسبوقة وتعتبر منظمة التجارة العالمية ساحة له، وإذا تطلعنا إلى التجربة الهندية ـ وقد عايشتها مباشرة لعدة سنوات ـ سوف نجد أن العنصر البشرى الهندى هو الذى حقق نقلة نوعية كبيرة لدولة تتعدد فيها الديانات واللغات والثقافات حتى إننا لا نكاد نجد قوة آسيوية تزاحم الصين إلا الدولة الهندية بالمليار ومائتى مليون مواطن من ثقافات مختلفة ومجتمعات متباينة، ولعلى أظن هنا أن الهند هى الدولة العازلة بين شرق آسيا وغربها إذ أن تلك الدولة التى تقبع فى جنوب القارة الآسيوية هى التى ينتشر أبناؤها فى قارات الدنيا الخمس ويتركزون فى منطقة الخليج وفى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا ومعظم دول أوروبا، فضلًا عن الانتشار القوى فى القارة الإفريقية إذ يبدو الاحتشاد واضحًا فى صفوف عدة دول كبرى فى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، فالهند هى التى أدركت أهمية مصر مبكرًا والتزمت معها فى عصر (جواهر لال نهرو) بسياسة عدم الانحياز والحياد الإيجابى، ودخلت فى الاتفاق الجمركى الثلاثى الذى ضم يوجوسلافيا السابقة ومصر والهند على نحو وفر لها فرصة كبيرة فى اكتشاف الشخصيات وسبر أغوارها.
إن الموارد البشرية والطبيعية هما جناحا قاطرة الوطن لمستقبل أفضل أمام كل التحديات.
جريدة الاهرام
28 اغسطس 2018
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/668319.aspx