يدهشنى كثيرًا أن ارتفاع الأسعار فى بلادنا لا يقابله انخفاض يوازيه فى حجم الاستهلاك مثلما تعلمنا فى مبادئ علم الاقتصاد، فلم يتحقق إعمال ملحوظ لآليات السوق فى دورها للموازنة بين العرض والطلب، فالملاحظ - خلافًا لمعظم التوقعات - أن ارتفاع الأسعار فى السنوات الأخيرة لم يدفع إلى تراجع الاستهلاك بنفس الدرجة, بل ظلت معدلاته عالية نسبيًا رغم ذلك ولعل أسعار المحروقات تحديدًا فى العامين الأخيرين هى مؤشر كاشف لذلك، فلقد كنت شخصيًا أتوقع أن ازدياد سعر المواد البترولية سوف يؤدى إلى تخفيف الحدة من زحام المرور وتقليص حركة السيارات بكل أنواعها كمحاولة جادة لترشيد الاستهلاك فى هذه السلعة الاستراتيجية ولكننى لا أرى لذلك حتى الآن مؤشرًا ملموسًا، فزحام المركبات مازال كما هو تقريبًا، ومن الملاحظ أن كثيرًا من تحركات السيارات حاليًا لا ترتبط بمهام أساسية ولكنها تمضى فقط لأسباب ترفيهية أو غير مهمة على الأقل، وقس على ذلك عشرات السلع والخدمات التى قفزت أسعارها ولم ينخفض الطلب عليها بذات المعدل ,وكأن قوانين العرض والطلب التقليدية و(منحنيات السواء) لا تمارس تأثيرًا عندنا فى الحالة المصرية! وإزاء هذه الظاهرة التى تمثل معادلة صعبة يقع العبء الأكبر منها على ميزانية الأسرة المصرية التى تصر على أن يظل استهلاكها كما هو وألا تسمح بالإقلال من ذلك الاستهلاك على نحو يقلل من معاناتها ,ويرفع عن كاهلها بعض العبء الإضافى الجديد الذى يتكبده عائل الأسرة بصورة واضحة وعلى نحو ملموس، ولعلى أجازف هنا بالخوض فى بعض أبجديات علم الاقتصاد - وهو علم جاف بطبيعته يختلف علماؤه كما هو معروف بصورة كبيرة تجاه القضية الواحدة - وأسمح لنفسى بأن أعرض ملاحظتين أساسيتين فى هذا السياق:
الأولى: لقد عالجت كثير من السياسات الاقتصادية عملية ترشيد الاستهلاك والحد من الإنفاق بأسلوب يختلف أحيانًا عن الأسلوب التقليدى لرفع الأسعار، ولعلنا نتذكر مصر بعد ثورة يوليو 1952 بسنوات قليلة حيث جرى تغيير نظام الموازين من نظام (الأقة) إلى نظام (الكيلو) مع ثبات سعر الوحدة بين الحالتين وبذلك فرضت الدولة بذكاء رجال من طراز عبد المنعم القيسونى ورفاقه معادلة جديدة لتوفير السلع ورفع الأسعار بطريقة غير مباشرة لا يكاد يشعر بها المستهلك إذ أصبح ثمن (الكيلو) هو ثمن (الأقة) من قبل دون تخفيض فى السعر رغم نقصان الوزن، ولماذا نذهب بعيدًا؟ فلقد لاحظت على سبيل المثال أن القيمة الشرائية لليورو قد أصبحت بديلًا للقيمة الشرائية للفرنك الفرنسى أو الفرنك السويسرى رغم اختلاف القيمة السعرية بين العملتين القديمة والجديدة، ولقد سمعت فى كثير من الدول الأوروبية داخل منطقة اليورو أن القوة الشرائية له تعادل القوة الشرائية لوحدة العملة الوطنية من قبل وبذلك ارتفعت الأسعار فى أوروبا بطريقة خبيثة وغير مباشرة لا يكاد يشعر بها المستهلك للسلعة أو الخدمة رغم أنه يدرك أن معاناة اقتصادية قد اقتحمت ميزانيته الشخصية وضاعفت من الجهد الذى يبذله لتوفير قيمة ذات السلعة، وذلك لا يأتى إلا بـ (القيمة المضافة) أى بمزيد من الإنتاج لتثبيت معدلات الاستهلاك وهو أمر لم نبرع فيه عندنا، فالتحكم فى الموازين والمقاييس والأحجام هو واحد من أدوات الحد من الاستهلاك ولنا فى حجم رغيف الخبز البلدى حاليًا مثالًا لذلك.
الثانية: لا أزعم أننى أستاذ فى الاقتصاد لكننى أدعى الخبرة فى العلاقات الدولية والإقليمية ونظم الحكومات، وفى مقدمتها أهمية الاستقرار السياسى فى تحقيق النمو الاقتصادي، كما أن التوازن بين الطبقات وتحقيق حد أدنى من العدالة الاجتماعية هو أمر يؤدى بدوره إلى الاستقرار السياسى فى النهاية فالديمقراطية الاقتصادية - إذا جاز التعبير - تؤدى إلى استقرار السوق وانعدام الخلل بين الأسعار والدخول كما أن التنمية السياسية تؤدى هى الأخرى إلى المصالحة الشاملة بين الطبقات والعدل فى توزيع أعباء تكلفة الإصلاح وتسمح فى النهاية بمناخ صحى يسعد فيه الجميع وليس فقط من يملكون على حساب من لا يملكون، وبهذه المناسبة فإن كلمة (العوز) التى يرددها كثيرًا رئيس الدولة المشير السيسى هى الأكثر دقة فى توصيف الحاجة والمعاناة الناجمين عن ندرة الموارد مع تعدد الحاجات.
إننى لا أريد أن أغوص فى تفاصيل قد لا أكون الأعلم بها ،ولكننى فقط أريد أن أنبه إلى أدوات أخرى لترشيد الاستهلاك وضغط الإنفاق وتعظيم موارد الدولة ،مع أقل قدر من المعاناة على الطبقات الأكثر عددًا والأشد فقرًا، إن التحكم فى الموازين والمقاييس والأحجام - فى إطار القانون ووفقًا لمعايير معروفة للجميع - هو إحدى الأدوات غير المباشرة لضبط الاستهلاك خصوصًا فى المجتمع المصرى المعروف فى بعض فئاته وطبقاته بالإسراف النسبى ووجود عادات تحتاج إلى مراجعة وتقويم، إننى أرى أن توفير الدولة لبعض مواردها لا يكون فقط برفع أسعارها ولكن بالتحكم فى استعمال تلك الموارد واستخدام بعض الخدمات على نحو يؤدى إلى توفير جزء من الموارد المتاحة دون وجود أعباء جديدة على ميزانية الدولة فيظل عائد بيع السلع والخدمات على ما هو عليه بينما ما يجرى تقديمه بصورة أقل نسبيًا وبشكل غير محسوس يتناسب مع الدراسات السيكولوجية لاتجاهات المستهلكين وعاداتهم الغذائية ونفقاتهم الأسرية، إن خلاصة ما أريد أن أذهب إليه هو أن أنبه - وبالتأكيد هناك من يعلمون أفضل منى فى هذا السياق - إلى ضرورة تبنى أساليب متعددة لضغط الإنفاق العام والحيلولة دون تبديد الموارد فى جانب بل أيضًا الحد من الاستهلاك والتبشير بعادات جديدة تسمح لميزانية الفرد والأسرة بدرجة عالية من الترشيد أسوة بكثير من الشعوب التى تتمتع بموارد أكبر ولكنها تتميز بحرص أكثر!
جريدة الأهرام
4 سبتمبر 2018
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/669352.aspx