كتبت فى هذا المكان منذ ثلاثة أسابيع مقالًا بعنوان (التهميش والإنصاف) تحدثت فيه عن العلاقات التاريخية بين المسلمين والمسيحيين فى مصر والشراكة الوطنية بينهما عبر العصور، وتحدثت بوضوح عن تحليل لعبارة البابا الراحل شنودة الثالث عندما قال: (لا يوجد اضطهاد أو تمييز ضد الأقباط ولكن هناك نوع من التهميش لهم)، وحددت فى ختام مقالى أهمية أن يتبوأ مسيحيون مصريون منصب المحافظ بعد التجربة المريرة لتعيين محافظ جديد لمحافظة قنا إبان فترة حكم المجلس العسكري، وكيف هوت التجربة بنا إلى القاع نتيجة رفض بعض أبناء المحافظة لتعيينه، وربما كان السبب حينذاك أن المحافظ الذى سبقه كان مسيحيًا أيضًا وكأنما تصور أهل قنا أن هناك كوتة للمسيحيين تختص بها محافظة قنا وحدها، ولم يكن الأمر كذلك بالطبع ولكنه كان أيضًا لا يخلو من سوء تقدير فى ذلك الوقت، ولم يمض على المقال أسبوعان - وكأن أبواب السماء كانت مفتوحة - فإذا الدولة تختار محافظين قديرين من المصريين المسيحيين فى محافظتى الدقهلية ودمياط، والمعروف أن محافظة الدقهلية واحدة من أكثر محافظات مصر ثقلًا ومكانة، بينما دمياط هى مدينة عالمية يعرفها القاصى والداني، ولقد تبوأت الموقع فيها سيدة فاضلة أبلت بلاءً حسنًا فى موقعها السابق كنائب محافظ للجيزة وبذلك تخلصت مصر من أحد مظاهر العوار وسقطت مجموعة الأوهام والمخاوف لأن يد الوطن ثابتة وغير مرتعشة وواثقة مما تفعل، وإذا كانت مصر قد عرفت اثنين من المحافظين المسيحيين من قبل أحدهما فؤاد عزيز غالي، والثانى مجدى أيوب فإن الحاجز هذه المرة قد انكسر ولن يعود أبدًا لأن الوطن لكل أبنائه والكفاءة - والكفاءة وحدها - هى المعيار عند الاختيار، وقد طالبت فى مقالى المشار إليه بأهمية أن يتولى بعض الأساتذة الكبار من المسيحيين المصريين رئاسة جامعة أو أكثر من جامعاتنا المنتشرة على خريطة الجمهورية إيمانًا منا بأن التهميش لا مبرر له، وأنا أعلم أن رئيس الدولة يرفض ذلك من منطلق دينى فهو يفهم الإسلام حق فهمه ولقد سمعته ذات مرة يقول إنه يتعامل مع أشقائه المسيحيين بما أوصى به كتاب الله فى العلاقة بهم إخوة فى الوطن وشركاء فى الحياة، ولقد تذكرت قصة طريفة وقعت منذ ما يقرب من خمسة عشر عامًا عندما كان وزير الخارجية هو المثقف المصرى الراحل أحمد ماهر السيد إذ ذهبت إليه ذات يوم وطلبت منه تعيين أحد المستشارين الدبلوماسيين الأكفاء ممن يعملون فى ديوان الوزارة، لكى ينضم إلى إدارة السلك الدبلوماسى والقنصلي، أو ما نطلق عليه إدارة التفتيش، ولم يكن فيها مسيحى واحد من قبل فقال لى الوزير رحمه الله: لا أعرف لماذا لا توجد سوابق لذلك؟! فقلت له: إنه دائمًا هناك المرة الأولى فى كل شيء! فقال لي: إنى أوافقك تمامًا، واختار ذلك الدبلوماسى الشاب للعمل فى تلك الإدارة ذات الخصوصية، ونجح المستشار ابن الوزارة فى عمله وأثبت أن إدارات الوزارة مفتوحة للجميع مسلمين ومسيحيين دون تهميش أو استثناء، ولقد شق طريقه بعد ذلك وأصبح مساعدًا لوزير الخارجية ومديرًا عامًا لإدارة المراسم وهى إدارة ذات حساسية خاصة واختيار دقيق من وزراء الخارجية، ثم تبوأ منصب السفير بعد ذلك فى دولتين مهمتين، أى أن خلاصة ما أريد أن أذهب إليه فى هذه النقطة أننا أحيانًا نكبل أنفسنا دون سبب ونصنع خطوطًا (همايونية) لا مبرر لها وليدرك الجميع أن شخصية مصر الإسلامية، لا تكتمل إلا بالعدالة فى تطبيق مفهوم المواطنة، فالمسلمون والمسيحيون بل واليهود أيضًا شركاء فى تاريخ الحضارة العربية الإسلامية وجزء لا يتجزأ من ثقافة المنطقة بما لها وما عليها، ويهمنى هنا أن أطرح ملاحظتين:
أولًا: إننى اعترف أن عنوان مقالتى التى أشرت إليها كان فى البداية (لن ينصفهم إلا أنت) متحدثًا إلى الرئيس الذى لا تحكمه عقد ولا يرضخ لضغوط ويعبر تعبيرًا دقيقًا عن المفهوم الصحيح للإسلام فى العلاقة بغير المسلمين من أشقاء الوطن الواحد ورفاق رحلة العصور، ولكننى عدلت عن ذلك واخترت العنوان الذى نشرتها به وكنت مستريحًا لما فعلت متذكرًا مقولة البابا تواضروس الثانى (إن وطنًا بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن)، وأنا أشعر دائمًا أن الشارع المصرى والمواطن العادى لا يعرفان اضطهادًا ولا تمييزًا ولا حتى تهميشًا، ولكنها رواسب لقرون مضت ترك فيها الأجنبى بصمات على وطن توهم فيه إمكانية تطبيق مبدأ (فرق تسد) ولقد خاب أمل البريطانيين بشهادة (كرومر) و(جورست) فى إمكانية التفرقة بين أبناء مصر حتى قال (كرومر) قولته الشهيرة (لا يوجد فى مصر مسلمون وأقباط ولكن يوجد مصريون يذهب بعضهم إلى المساجد يوم الجمعة، والبعض الآخر إلى الكنائس يوم الأحد!).
ثانيًا: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وذلك فى ظنى هو دستور لمن يريد أن يصحح الحاضر، وأن يبنى المستقبل، وأن يتحرر من أخطاء الماضي، وألفت النظر هنا بارتياح إلى التراجع النسبى للأحداث الطائفية لأن الوعى قد ارتفع والإيمان قد استقر وأدركنا جميعًا أننا فى قارب واحد، إما أن نطفوا جميعًا وإما نغرق بغير استثناء.
.. تلك تكملة كاشفة لمقال منشئ فى وقت تلتحم فيه الأفكار والرؤى من أجل الخروج من عنق الزجاجة، والاتجاه نحو غد أفضل.
جريدة الاهرام
11 سبتمبر 2018
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/670304.aspx