عندما أصدر فيلسوف الاقتصاد (آدم سميث) كتابه الشهير "ثروة الأمم" إيذانًا بالخروج من عصر المقايضة للدخول إلى عصر جديد تسود فيه النقود وتنتشر أساليب التعامل الحديثة من خلال سلة جديدة من العملات ومفهوم مختلف لعلم الاقتصاد تلعب فيه النقود والبنوك دورًا أساسيًا مع ميلاد المصارف الكبرى والمؤسسات الاقتصادية الضخمة، منذ ذلك الحين ونحن نرى أن علم الاقتصاد الذي درس لنا مبادئه بالجامعة أستاذ متألق باهر الفكرة، أنيق العبارة، هو الدكتور رفعت المحجوب بقوله (إن الاقتصاد هو علم الندرة أي توزيع الإمكانات المتاحة على الاحتياجات المتعددة أو هو علم الصيرورة أي تحول الأشياء من حالة إلى أخرى ما بين مفهوم السلع والدلالات الرقمية للنقود) وكان الدكتور المحجوب يصول ويجول في محاضرات رائعة يمتزج فيها الاقتصاد بالأدب وتتداخل السياسات المالية مع التاريخ البشري، وكان يدرس لنا علم النقود والبنوك أستاذ أساتذة هذا الفرع وهو الدكتور محمد زكي شافعي أول عميد لكلية الاقتصاد الذي كان يداعبنا قائلًا إنه عندما يتحدث عن أحد المصارف الدولية الكبرى فهو لا يشير إلى فرع أحد البنوك المحلية في حي (بين السرايات) الملاصق للجامعة والذي كان حيًا شعبيًا بسيطًا في ذلك الوقت أما الآن فقد تغير حاله وتبدل أمره وظهرت فيه البنايات الكبيرة والعمائر الحديثة، وكنا ندرس التكتلات الاقتصادية بما فيها أنواع (الكارتل) و(الترست) ثم نصل إلى الشركات الدولية الكبرى عابرة القارات والتي تملك فروعًا في دول مختلفة حتى أصبح مقياس ثروات الأمم هو محصلة الناتج القومي للتبادل التجاري في جانب وميزان المدفوعات في جانب آخر كترجمة واضحة للموارد الطبيعية والموارد البشرية معًا وفي كل دولة على حدة، وتختلف الدول فيما تملك بين رصيد كبير من الموارد الطبيعية ورصيد أقل من الموارد البشرية أو العكس بل إن دولًا مثل اليابان في آسيا وسويسرا في أوروبا لا تملكان موارد طبيعية كبيرة ولكنهما أحرزتا قدرًا كبيرًا من الانجازات وقطعتا شوطًا طويلًا على مسار التقدم والسبب في ذلك أن العنصر البشري المتميز يقوم تلقائيًا بتعويض النقص في الموارد الطبيعية حيث يركز على الصناعات الحديثة لتصبح ثروة الأمة هي مجموع العقول البشرية لأبنائها بغير استثناء، فالدولة المحرومة نسبيًا من المواد الخام والتي لم تكن الطبيعة سخية عليها لا تقف مكتوفة الأيدي ولكنها تتجه بالضرورة إلى العقل البشري لكي تستخدمه في عملية التحول إلى التصنيع الثقيل والخفيف والانطلاق منهما للأسواق العالمية، فالعقل البشري هو الحاكم وهو السيد وهو المتغير المستقل الذي تتبعه كافة المتغيرات الأخرى التابعة له، إلا أن مجتمعات الوفرة على الجانب الآخر التي تملك المياه الكافية والأراضي الواسعة وتستخرج من باطن الأرض مصادر الوقود وسوائل المحروقات وفي مقدمتها النفط لذلك عكفت هذه الدول على البناء السهل معتمدة على تعدد مصادر الطاقة وخامات الصناعة، ولعل الولايات المتحدة الأمريكية هي أبرز النماذج المعاصرة لمجتمعات الوفرة وإن كان ذلك لا يعني عدم تعرض الاقتصاد الأمريكي في بعض الأحوال إلى أزمات طارئة بل وهزات عنيفة أطاحت ببعض الرؤساء في الانتخابات الرئاسية وهم في الحكم برغم إنجازاتهم الباهرة في السياسة الخارجية ونجاحهم الملحوظ في إدارة شبكة العلاقات الدولية التي تنتمي إليها واشنطن، ولنا هنا بعض الملاحظات:
أولاً: إن ثروة الأمم في عصر التقدم التكنولوجي الكاسح قد تغيرت من حيث الدلالة كمًا وكيفًا، ولو اتخذنا علوم البرمجيات نموذجًا جديدًا لما يمكن أن يتفاعل معه المواطن العادي بعد دورات تدريبية مكثفة لوجدنا أننا أمام مصادر جديدة للدخل القومي في حياة كثير من الدول، فالتكنولوجيا لم تعد عصية على أحد، إنها باختصار عملية توظيف العلم والتدريب في خدمة الصناعة والتصنيع بمعناه الثقيل والمتوسط والخفيف.
ثانيًا: تظل الزراعة هي مصدر الغذاء وسلة الطعام للشعوب المختلفة ولعل الدول المحرومة من الزراعة بسبب قلة مساحات الأرض أو ندرة المياه وزحف التصحر وانتشار الجفاف هي نماذج على الجانب الآخر لفقر الطبيعة وشيوع المجاعات، وقد تتوفر الأرض والمياه ولكن تنعدم الإرادة البشرية للاستصلاح والاستزراع، ولقد كانت المساحات الشاسعة في السودان الشقيق هي أحد النماذج لذلك خصوصًا وأن السودان كان مرشحًا لكي يكون سلة الغذاء للقارة الإفريقية والعالم العربي، ولعل ما نشهده من ضوضاء صاخبة حول سد النهضة هو تطبيق قريب للأفكار التي أشرنا إليها، وقد استعانت دول ثرية ولكنها لا تملك الوفرة المائية بدول أخرى مثل إثيوبيا والسودان لتزرع على أرضها وبمياهها مساحات شاسعة تفي بغذاء شعوبها على حساب حقوق دول النهر وبتدبير خبيث يفتقد حسن النية.
ثالثًا: تظل السياحة لدولة مثل مصر هي الباب الذهبي لما نسميه ثروة الأمم شريطة أن تتمكن الدولة المصرية من توظيف ما لديها من إمكانات ضخمة وثروة حضارية هائلة، وكما قلنا من قبل فإن هناك شعوبًا تحفر من أجل المياه أو النفط أو المعادن الأخرى بينما يحفر المصريون ليستخرجوا الحضارة التي أبهرت العالم، فإذا تمكنت مصر من تحسين الخدمات في مرافقها المختلفة ومؤسساتها المتعددة بحيث جعلت سعر الخدمة المحلية هو ذاته سعرها العالمي فإننا نكون قد حققنا طفرة سياحية كبرى تتقدم بها مصر لتكون في صدارة الدول السياحية في العالم بما تملكه من آثار خالدة ومدن قديمة وشواطئ رائعة.
إن ثروة الأمم تختلف من عصر إلى عصر ومن دولة إلى أخرى ولكن تعظيم تلك الثروة يحتاج دائمًا إلى إعمال العقل البشري وقدرته على فهم ما يدور حوله واستيعابه لحركة التطور التي لا تتوقف.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 27 ابريل 2021.