عندما أنظر ورائى أتأمل نصف قرن كاملا من العمل العام الذى مارسته دبلوماسيًا، وأكاديميًا، وبرلمانيًا مع تعلق دائم بميدان الفكر ومجالات الثقافة إلى جانب شغفٍ بالأدب ومتابعة دائمة للفنون، عندما أفعل ذلك يكون من الطبيعى أن تنتابنى حالة من التفكير العميق فيما يمكن تسميته (بورصة البشر)، حيث ترتفع أسهم البعض فى فترات معينة وتنخفض فى أخرى كما أن الزمان بطبيعته متقلب والحياة لا تستقيم على حال واحدة، وما أكثر من رأيت وهم فى قمم السلطة وذروة الثروة مع القدرة المطلقة على العطاء ثم رأيتهم هم أنفسهم يعيشون فى ظل الضوء الشاحب والسلطة الغاربة أو الثروة الضائعة أو الصحة المتهالكة، وأدركت أن أسهم الإنسان فى بورصة البشر تكشف، إلى حد كبير، عن طبائع الحياة وفلسفة الوجود، وأدركت أن دوام الحال من المحال وأن الدنيا لو ازدهرت حولك حتى ابتسمت لك جوقة المنافقين وحملت المباخر إلا أن لكل شىء نهاية، رحم الله أبى الذى كان يقول لى كلمته الشهيرة: (إن زهزهت خاف منها)، وكأنما كان يردد ذات المفهوم الذى طرحه داهية العرب معاوية بن أبوسفيان الذى كان من مأثوراته جملته الشهيرة: (ما من دار ملئت حبرة إلا وملئت عبرة)!
وكأنما كان يستشرف نكبة البرامكة فى العصر العباسى بعد ذلك بعدة قرون، ولو نظرنا إلى الماضى بل والحاضر فسوف نستكشف دائمًا أن الذين يمشون فى الأرض مرحًا ولا يدركون الحقيقة ولا يفكرون فى يوم تختلف فيه الأمور ويفر المنافقون من حولك وتخفت الأضواء عنك وتنخفض أسعارك فى بورصة الحياة على نحو غير متوقع، وقد كان يعن لى أحيانًا وأنا أجلس متأملًا فى سرادق العزاء لإحدى الشخصيات الكبيرة أن أشهد توافد الأجيال المختلفة والمنتمية إلى عصور متتالية فى الحكم، فهؤلاء هم الامتداد الباقى للعصر الناصرى، وأولئك هم المنتمون إلى عصر الرئيس السادات، أما الأغلب الأعم فهم يمثلون العصر الذى ينتمى إليه صاحب العزاء، وأفكر طويلًا فى الاختلافات بينهم نتيجة القرب أو البعد من السلطة والثروة، وأرى أن أسهم البعض قد هبطت كثيرًا والبعض الآخر لايزال محتفظًا بشىء من رونقه، وبعض ثالث يكابر فى عناد وكأنما يريد أن يظل بطلًا على المسرح مدى الحياة، ثم أعود إلى أرقام البورصة، فأجد أن السهم البشرى فى صعود وهبوط دائمين لا يستقر صاحبهما على حال، وقد يسبب حادث بسيط ارتفاع سعر سهم بشرى إلى الحد الأقصى كما يمكن أن تؤدى سقطة إنسانية بصاحبها إلى الحد الأدنى من سعره فى بورصة البشر، ويهمنى هنا أن أطرح التعليقين التاليين:
أولًا: إن امتداد العمر البشرى بالبعض يسمح بزيادة التراكم لرصيد صاحبه متمثلًا فى سعر أسهمه بالبورصة البشرية بينما قد يؤدى الرحيل فى سن مبكرة إلى ضعف سعر السهم فى البورصة البشرية، وإن كان لذلك استثناءات كثيرة، فهناك من حققوا فى أعمار قصيرة ما جعلهم يقفون على قاعدة تمثال فى أفضل الميادين بسبب عطائهم المبكر وقدراتهم الزائدة، وأتذكر هنا اسمى مصطفى كامل رائد الوطنية المصرية وسيد درويش الأب الشرعى للموسيقى الشعبية، كما أن امتداد العمر بأسماء مثل أحمد لطفى السيد وعزيز المصرى واللواء محمد نجيب قد سمح لهم بأن يظلوا فى البورصة البشرية لسنوات طويلة أدت إلى تراكم أرصدتهم عبر التاريخ، والأمثلة كثيرة فى هذا السياق.
ثانيًا: إن عامل المعاصرة يتحكم، إلى حد كبير، فى أسعار البورصة البشرية صعودًا وهبوطًا، إذ إن التغييرات الكبيرة فى المناخ السياسى والبيئة الثقافية تؤدى فى مجملها إلى تغيير المزاج العام، فمن كان مقبولًا أمس يصبح اليوم مرفوضًا، ومن كان منبوذًا فى الماضى يعود إليه تألقه وارتفاع أسهمه مثلما حدث لأحمد عرابى بعد سنوات طويلة فى المنفى وعودته إلى الوطن، وكذلك كان الأمر فى رد الاعتبار للفريق سعد الشاذلى فى غضون ثورة 25 يناير 2011، ولقد علمتنا أحداث التاريخ أن بورصة البشر تتأثر بحساسية زائدة فى الفارق بين أسعار القادمين وقيمة الذاهبين.
هذه خواطر تطفو على سطح الذهن مع ساعات الصفاء المرتبطة بالصيام وهو الذى يذكرنا دائمًا بدورة الزمان، ومواقيت الطقوس وتبدل الأحوال، وتغير الأسعار فى بورصة الإنسان.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2324490