عندما أصدر الشاعر العربى الراحل صلاح عبد الصبور ديوانه الشهير أحلام الفارس القديم رأيت أن أستعير من أبرز رواد الشعر الحديث عنوانه، وقد فكرت أن يكون هو أوهام الفتى القديم ولكننى عدلت عن ذلك ورأيت أن أرتفع به ليصبح هذا العنوان الذى اخترناه لأننى أرى الدنيا حولنا تتغيّر بسرعة، وأن الفتى القديم يشعر بغربةٍ مما يدور حوله، فالدنيا تغيرت والعالم تطور حتى الفيروس تحوّر، كما أن اللهاث وراء تكنولوجيا العصر قد ترك بصماتِ قوية على الأجيال الجديدة وأصبحنا نرى كوكب الأرض من منظورٍ جديد مختلفٍ تمامًا عما كنا عليه، بل إن الشهور الأخيرة قد ركزت على الخيط الرفيع بين الحياة والموت فكل يومٍ نفقد أقارب ومعارف وأصدقاء ولكننا لا نعتبر كثيرًا ونعيش حياتنا شبه العادية فى بلادةٍ ولا مبالاة يصعب تفسير أسبابها، إن الفتى القديم يشعر بعزلةٍ حقيقية عن واقع العصر ويتعامل مع أدواته وآلياته بحرصٍ وحذرٍ شديدين ويدرك أن الأيام الخوالى لن تعود وأن الزمن أغلى سلع الحياة ولكنه غير قابلٍ للادخار مثل غيره بل يفلت من أيدينا كل لحظة ولكنه لا يعود أبدًا، إن دافعى فى كتابة هذه السطور هو أن أعبّر عن شعورى العميق بأن الهوة بين الأجيال تتسع وأن القادمين على المسرح يختلفون عن الذاهبين منه، وعندما ألتمس من أحد أحفادى مراجعة هاتفى المحمول لإصلاح خطأ أو إجراء تعديل فإننى أبدو مقتنعًا بأن ما جرى فى الخمسين عامًا الأخيرة يعادل تقريبًا ما جرى فى الخمسمائة عام السابقة عليه، فقد أصبحنا عاجزين عن متابعة التطورات السريعة فى التقنية الحديثة حتى أن بعض الاكتشافات أو الاختراعات لا تجد مكانها فى التطبيق لأن تطورًا سريعًا يلحق بها أو تعديلاً يطرأ عليها ولعل حرب التطعيمات التى شهدناها بين شركات الدواء الكبرى فى العالم تعكس إلى حدٍ كبير جزءًا مما نتحدث عنه أو نشير إليه، ويهمنى فى هذا المقام أن أسجل الملاحظات الآتية:
أولاً: إن التكنولوجيا المعاصرة هى سلاحٌ ذو حدين فبقدر ما قدمت للبشر من تسهيلات وما أتاحته من فرص إلا أنها قضت إلى حدٍ كبير على شبكة الحياة الاجتماعية وأدت إلى تحولٍ خطير فى العلاقة بين الأفراد حتى أصبح كل واحدٍ يعيش مع نفسه وجهاز صغير فى يديه يصله بأطراف الدنيا الأربعة، لقد اختصرت التكنولوجيا المسافات بل والأزمنة أيضًا وأصبحت طرفًا فى معادلة الزمان والمكان على كل المستويات، لقد أصبحنا نعيش يومًا بيوم فكل غدٍ يحمل فى طياته جزءًا من أحلام الفارس القديم ليسلمها إلى الفتى الجديد.
ثانيًا: لقد تحدث المفكرون عن صراع الحضارات وتحدث الماركسيون عن صراع الطبقات ونحن نشير اليوم إلى صراع الأجيال ونفضل تسميته حرصًا وتأدبًا بحوار الأجيال، وهى مسألة محتدمة ولكنها مستترة إذ يدخل فيها عوامل معقدة وأطراف متشابكة تصل بنا فى النهاية إلى ضرورة التعايش بين كل جيلٍ ومن سبقه بل ومن يتلوه أيضًا، فهناك أجيالٌ تبنى وأخرى تجنى ولكنها فى النهاية سنة الحياة وفلسفة الوجود ولحسن الحظ فإن الأجيال الجديدة مهيأة للأوضاع الجديدة فعلاقتها بالتكنولوجيا ممتازة وقدرتها على استيعابها كبيرة، تصديقًا للمقولة التاريخية العظيمة (كلٌ ميسرٌ لما خلق له)
ثالثًا: إن شيوع خطاب الكراهية وأزمة الشك المتبادلة بين المختلفين زمانًا أو المتباعدين مكانًا يجب ألا تكون عقبة فى سبيل التقدم الإنسانى الذى لن يتوقف أبدًا، ولعلى أشير هنا إلى كثير من المخاوف المتبادلة والشكوك الدفينة التى تغذيها نظرية المؤامرة وتحيط الإنسان بغلالة من القلق فى ظل شائعاتٍ تتردد وأقوالٍ تنتشر عن الرغبة فى تقليص عدد الجنس البشرى بزيادة الوفيات بدلاً من إنقاص المواليد! خصوصًا أن الحروب العالمية توقفت وأن مستويات الرعاية الصحية قد مدت إلى حدٍ كبير فى أعمار الناس ووضعتهم فى مأزق حقيقى يفصل بين الإنتاج والأجر أو بين ما يقدمه المسنون من جهدٍ محدود وما يحتاجونه من عنايةٍ كبيرة، حتى ظهر فرع طب المسنين فى كليات الطب الحديثة فى العالم كله لذلك فنحن لا نخفى مشاعر القلق الحقيقى والريبة الكاملة تجاه المستقبل القريب، لأن عالمًا لا يستطيع أن يستوعب أكثر من سبعة مليارات من البشر مطلوب منه خلال فترة قادمة أن يستوعب ملياراتٍ عشرة دون موارد جديدة أو حتى مصادر متجددة، لقد أعطت الأنهار مالديها وقدمت البحار ما فى أعماقها ودفعت المحيطات بثرواتها، وجرى استنزاف اليابسة إلى أبعد الحدود وطفحت الصحارى بمخزونها الضخم من الغاز والنفط والمعادن الأخري، وأصبح عالمنا مقبلاً على مشكلاتٍ فى المياه وأزماتٍ فى الطاقة مع تلوث شديد فى البيئة وتغيرات جذرية فى المناخ. كل ذلك يثير مشاعر الفتى القديم ويجعله يقارن بين زمنه الجميل وزمنٍ يعيش فيه حاليًا تحت مظلة الاغتراب والتوحد يجتر ذكرياته ويلوك أحزانه.
إننى لا ألجأ إلى هذا النمط من الكتابة تطبيقًا للأدب الرمزى أو استعارة أفكارٍ عابرة للحدود الزمنية، ولكننى أردت أن أضع إنسان العصر أمام التحديات الحقيقية والمشكلات المزمنة والأزمات الطارئة، فكل يومٍ يأتى بجديد وكل جديدٍ لا يكون مقبولاً من بدايته فالمرء عدوٌ لما يجهله، متشكك فيما لا يعرفه، ويمضى دائمًا نحو تطلعاته وكلما عرف أكثر ازداد نهمه للمعرفة. لذلك فإن الحلقة مفتوحة والدائرة غير مغلقة، وسيظل الإنسان أسير طموحاته ولا أقول أطماعه مع ركامٍ من العواطف الإنسانية والأحاسيس البشرية التى تجعلنا نعيد قراءة ما كتبه الشاعر الراحل الكبير صلاح عبد الصبور .. إنها بحق أحلام الفارس القديم.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 18 مايو 2021.
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/807951.aspx