حملت مصر شعلة الحضارة ومصابيح الاستنارة لعدة قرون من تاريخ المنطقة، فذكرها الأولون وأشاد بها الأقدمون وأجمعت الكتب المقدسة على مكانتها ومكانها، حيث تميزت بمكانة فى التاريخ ومكانٍ فى الجغرافيا، وظل الناس على عهدهم بها برغم ما تواجهه من مصاعب وما تقع فيه من كبوات إلا أنها كانت لا تتراجع إلا لتتقدم، ولا يخفت الضوء حولها إلا ليزدهر من جديد وتسابق غيرها فى تسميتها، فهى أم الدنيا تارة والكنانة تارة أخرى ومصر المحروسة دائمًا.. أقول ذلك فى هذه الأيام الصعبة التى يمر بها الوطن من تحديات خارجية - (سد النهضة) ووباء عالمى (الكورونا)- فضلًا عن حركة إعمار وجهود تشييد وبناء غير مسبوقة فى تاريخ البلاد، وسوف تطل على العالم بعد فترة وجيزة بعاصمة جديدة تكون نموذجًا للتقدم وإحدى تحف القرن الحادى والعشرين، بينما تبقى القاهرة حاضنة التراث والمتحف الكبير للأزمنة والعصور، بدءًا من العاصمة الفرعونية مرورًا بالفسطاط والقطائع والعسكر حتى القاهرة التى فكر فى بنائها واحدٌ من أبناء كرواتيا هو جوهر الصقلى، وظلت القاهرة منارة عصية على الطغاة والبغاة والغزاة، ويكفى أن نتجول فى شوارع القاهرة الفاطمية أو المملوكية أو الخديوية لنشهد تراكم الحضارات وتعاقب الثقافات، حتى أصبحت مصر بحق سبيكة رائعة وبوتقة لا نظير لها فى عالم اليوم، برغم كل مشكلاتها ومصاعبها والمعاناة التى يواجهها أبناؤها بسبب الانفجار السكانى والتكدس البشرى ولكنها تبقى فى النهاية مدينة السلام والازدهار، تفوح منها روح الاستنارة وترتفع مآذنها وأبراج كنائسها لتؤكد أنها عاصمة الموحدين وراعية الديانات ومستوعبة الثقافات، إننى أكتب اليوم لكى ألفت النظر إلى ضرورة تقريب المسافة بين الماضى والحاضر، بين قاهرة المعز وبين العاصمة الجديدة التى نتجه إليها بعد شهورٍ قليلة، ويهمنى هنا أن أسجل الملاحظات الثلاث التالية:
أولًا: إن الاستنارة بمفهومها التاريخى ومعناها الإنسانى والحضارى ترتبط دائمًا بروح العصر وتعكس تراثه وتعبر عن قدره، فإذا كانت القاهرة هى تراث الماضى وراوية التاريخ، فإن العاصمة الجديدة يجب أن تكون مستودع التكنولوجيا المعبرة عن الحداثة والفكر والعلم معًا، حيث تتحول جامعاتها إلى مراكز للتميز الذى ينطلق من علوم العصر وتقنياته، وتقدم لنا نموذجًا لمصر الحاضر والمستقبل، كما قدمت القاهرة مصر الماضى والحاضر، إن العاصمة الجديدة سوف تقترن حتمًا بثورة صناعية كبرى لا تتوقف عند حدود العمران وتشييد الأبنية ولكنها تتجاوز ذلك إلى جوهر المفهوم الحديث للتنمية المستدامة.
ثانيًا: لقد زرت المجمع الثقافى بالعاصمة الجديدة وبهرتنى المكتبة والمسرح وقاعات الفنون وأدركت أن المعارف الإنسانية الموروثة هى وقودٌ طبيعى للصحوة العلمية الجديدة، وكلما ذهبت إلى الإسكندرية - بحكم عملى - أرى الأبنية الشامخة على الساحل الشمالى فى مدينة العلمين تجسد هى الأخرى امتدادًا ليقظة وطنية شاملة وكاملة، إن محمد على عندما بدأ فى بناء مصر الحديثة استعان بكل الخبرات المتاحة - مصرية وأجنبية - فى ظل خيال بعيد المدى يملك رؤية تستشرف المستقبل وتقرأ بعينى زرقاء اليمامة ما هو قادم، وعندما حاول عبدالناصر بعد ذلك بقرنٍ ونصف أن يفعل شيئًا من ذلك، استهلكته المعارك واستنزفته الصراعات، رغم أنه حاول أن يقتحم ميدان التصنيع ولكن تجربته أجهضت بنكسة عام 1967، مثلما أجهضت تجربة محمد على بمعاهدة لندن عام 1840.
ثالثًا: فى غمار البنيان والعمران والنهوض بالزراعة ودفع التصنيع، يتعين علينا الاهتمام الدائم بجيش مصر الذى يتقدم فى التصنيف الدولى ليكون تاليًا للجيش العاشر فى عالم تحترم فيه الدول أو لا تحترم، تكون مهابة أو غير مهابة، ولكن العبرة دائمًا هى بقدرتها على حماية حدودها وصيانة أراضيها والحفاظ على سلامة أبنائها، والجيش المصرى بهذا المعنى جزءٌ لا يتجزأ من رصيد الوطن وتراثه الباقى.
هذه خواطر تنطلق من البيئة السياسية التى نعيشها والمناخ الفكرى الذى يسود على أرضها، فنحن فى فترة تحولٍ كبرى أمام تحديات صعبة وظروفٍ معقدة، اكتشفنا فيها أن الحاقدين على مصر كُثر وأن الذين يشعرون بغيرةٍ منها لا يتحمسون لأن تحلّق من جديد فى سماوات العلا وفضاءات النهضة، وفقًا لإرادة شعب مسالم يطلب الحياة المستقرة له ولغيره ولا يدس أنفه فى شؤون سواه، لذلك يحميه الله دائمًا.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2334329