قال أمير الشعراء: أبا الهول طال عليك العصر وبلغت فى الأرض أقصى العمر، فأبو الهول هو الشاهد الباقى على المسيرة الإنسانية كلها منذ بدايتها حتى الآن وهو الحارس الأمين على الأهرامات وغيرها من روائع الزمان وهدايا التاريخ، وعندما قال نابليون قولته الشهيرة مخاطبًا جنوده فى معركته قرب الأهرام: إن ثلاثين قرنًا تطل علينا فى هذا المكان، لم يكن مبالغًا فى ذلك فتلك حقيقة ترتبط بالحضارة المصرية القديمة والإلهام الذى صدرته للعقل البشرى عبر القرون، ولقد رأى أبو الهول مالم يره أحد لأنه عاش الدهر كله وتطلع إلى كل مكان، والمتأمل فى وجه أبو الهول وأنفه المقصوف سوف يشعر بتجاعيد الزمن وندبات العمر الطويل، وعندما جاء العرب المسلمون إلى مصر راعتهم آثارها وأدهشتهم معابدها لأن مصر عرفت معنى التوحيد قبل الديانات الإبراهيمية، وأدركت منذ فجر التاريخ أن للكون خالقا واحدا لا شريك له جسدته فى بعض الكواكب وبشخوص كبرى بوثنية انتقالية كانت تمهيدًا طبيعيًا لاستقبال مصر للرسالات السماوية، فماذا يقول أبو الهول إذا نطق؟.
أولاً: إنه باعتباره ديدبان الأزمنة والحارس اليقظ على قبور الفراعنة الذين اكتشفوا سر التحنيط بالعلم وتعاملوا مع لغز الموت وآمنوا بالحياة الثانية واستعدوا لها، لذلك فإن أبا الهول ينظر حوله ليتأمل حياة المصريين فيرفض بعضها ويقبل معظمها ويستنكر على هذا الشعب المعطاء صاحب التاريخ العريق أن يعيش عالة على تراثه وألا يجد فى حاضره ومستقبله ما يرتفع به إلى مستوى ما كان عليه الآباء والأجداد، إن لكل زمانٍ آية وآية زماننا هى العلم الحديث بكل تداعياته ونتائجه، فالتكنولوجيا فى أبسط تعريف لها هى توظيف العلم لخدمة الصناعة، ولا يشك أحد فى ذكاء المصريين وقدرتهم على اقتحام المعارف الحديثة والعلوم الجديدة بدليل تفوقهم الواضح بالخارج والنماذج الدالة على ذلك كثيرة لا تقف عند حدود زويل ومجدى يعقوب وغيرهما ولكنها كفاءات مبعثرة داخل البلاد وخارجها.
ثانيًا: إن أهم ما يلزم مصر حاليًا هو تحديد أولويات العمل الوطنى وفقًا للفقه المتعارف عليه بأن هناك أمورًا عاجلة ولكنها ليست مهمة بينما هناك قضايا مهمة ولكنها ليست عاجلة بل تستطيع الانتظار، وذلك معناه أنه لا يمكن التنبؤ بثقة عن مسارٍ معين نحو مستقبل بذاته فكل الاحتمالات مطروحة وكل التحديات قائمة والدولة المصرية تحاول الإقلاع بمائة وعشرة ملايين مواطن ولكن الحمل ثقيل والتركة صعبة للوصول للغايات المنشودة.
ثالثًا: ليست القضية ذات صلة بحالة فردية أو مسألة شخصية ولكننى أطالب بأن نطلق العنان لخيال إيجابى فى تصورات نزيهة تجعلنا قادرين على استشراف المستقبل وتبين ملامحه، فالخيال هو تصوير المستقبل والتمكين من تشكيل ملامح ماهو قادم وصنع النموذج الأمثل لما يريده البشر لغدهم المنتظر، لذلك فإن الأفكار العظمى والاختراعات الكبرى كانت كلها مختزنة فى خيال أصحابها حبيسة أحلامهم الكامنة وأفكارهم الصادقة.
رابعًا: إن الذين يتوهمون أن الأمور تمضى عشوائيًا وأن إرادة الإنسان عامل إضافى ليس أساسيًا إنما يتواكلون وراء خيالٍ غائب ورؤية قاصرة، فالإرادة الإنسانية هى محركة التاريخ وهى دافعة الشعوب وحامية الأمم، والذين غيروا مجرى الحياة إنما انطلقوا بإرادة واعية وفكر مستنير مع تصميم عميق على تحقيق ما يتطلعون إليه، والأمر ذاته ينسحب على الشعوب، فإرادة الشعب الألمانى هى التى تقف وراء نهوضه بعد الانتكاسات، وإرادة الشعب المصرى هى التى نقلته من عار الهزيمة إلى إكليل النصر، والأمم والأفراد - على حد سواء - دون إرادة إنما هم جثث هامدة وكيانات وهمية لا تقدم ولا تؤخر، لذلك فإننا ندعو إلى تربية الأجيال الجديدة فى بلادنا وفقًا لمنهج الإرادة الواعية التى صنعت اليابان الحديثة، وقفزت بالصين الضخمة، وأحالت دولاً كثيرة أيضًا عند غيابها إلى مزبلة التاريخ، إن الإرادة قرار عقلى يقتنع به الفرد ويمضى وراءه حتى نهايته.
خامسًا: إن أبا الهول يعبر عن رمزيةٍ عريقة فى تاريخ الأمة المصرية بما يحمله وجوده وتركيبة مظهره من حقائق تمت للحياة بصلة وترتبط بالوجود الدائم لها، فلقد أصبح رمزًا من رموز الأبدية إذا جاز لنا التعبير لأنها للخالق وحده ومع ذلك فإن استمراره وهو يشهد مواكب الحكام وقوافل الغزاة ويحمل على كاهله وقر السنين وندوب الزمن، إن ذلك المعنى العميق والخطير يدعونا لكى نكتشف أن تاريخنا مسجل على أرضنا ولكن يبقى علينا أن نحمى تراثنا وأن نحترم تاريخنا، لقد صدحت أم كلثوم بقصيدة كامل الشناوى على باب مصر:
وتمضى المواكب بالقادمين من كل لون وكل مجال
فمن عصر مينا إلى عصر عمرو ومن عصر عمرو لعصر جمال
وهاهم الأبناء والأحفاد يستكملون المسيرة ويشيدون البناء ويواجهون أعتى التحديات فى ظل ظروفٍ شديدة الحساسية بالغة التعقيد، وأبو الهول شاهدٌ لا يتوقف عن التأمل، صامت ينطق بغير كلام، يضم أسرار الزمان ويجسد عبقرية المكان.
إننى قصدت باستنطاق أبى الهول أن ألفت النظر إلى استمرارية تاريخنا وعظمة آثارنا ونبوغ أجدادنا، ولعل مسيرة المومياوات الملكية فى أبريل 2021 هى دليل على التواصل الزمنى والارتباط الروحى بيننا وبين صناع المجد ورموز الحضارة وملوك الزمن البعيد، لتحيا معهم مصر ولتثبت للعالم أنها بدأت مع التاريخ منذ طفولته وعايشت الأزمنة والعصور، وصمدت فى بسالة رغم عاديات الدهر، ومكائد القريب والبعيد ولكنها تحيا دائمًا لأن إرادة الله تقف وراءها وتدعم وجودها وترفض سقوطها.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 25 مايو 2021.
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/808766.aspx