سوف أظل أذكره وأفتقد قلمه وصوته كاتبًا وطنيًا رصينًا وصحفيًا عربيًا مرموقًا ترك بصمة كبيرة على أوراق الصحف وأخبار وكالات الأنباء فقد كان وفيًا لمهنته حتى الرمق الأخير، وكنت أراه يحضر بعض الاجتماعات وبيده أوراق صغيرة وقلم يجري فوقها مسجلاً فكرة أو مؤكدًا لخبر أو متذكرًا رأيًا، لقد كانت الصحافة تجري في عروقه بولاء كامل لتلك المهنة النبيلة وحرص شديد على مصداقية كلماته مع جرأة متفردة في اقتحام الموضوعات والدخول أحيانًا إلى الدوائر الشائكة بلا تردد مادام يكتب كل ما يصب في خانة مصلحة الوطن والارتقاء بالشعب الذي ينتمي إليه منذ أن وفد إلى القاهرة قادمًا من أكثر محافظات الدلتا ازدحامًا بالبشر واهتمامًا بالتعليم، ولقد ربطتني بمكرم صلات تمتد إلى منتصف سبعينيات القرن الماضي عندما كتب مقالاً شهيرًا عن الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وأوصانا ــ نحن شباب الدبلوماسيين ــ وزير الخارجية الشهير إسماعيل فهمي بضرورة الاطلاع على ذلك المقال ودراسته، عندئذٍ التفتنا جميعًا إلى اسم صحفيٍ شاب من تلاميذ الأستاذ هيكل الذي كان قد ترك الأهرام بعد صدامه المعروف مع الرئيس الراحل أنور السادات، وقد ظل مكرم متألقًا على ساحة الصحافة العربية والإعلام المصري لأكثر من ثلاثة عقود متقدمًا في الصدارة شاهرًا قلمه بالتزام قومي وموضوعية واقعية ورؤية عصرية ترى الأمور من منظورٍ واسع، يكتب في شفافية لا تختفي وراءها مصالح شخصية أو أهداف ذاتية حتى صعد إلى قمة نقابة الصحفيين المصرية واتحادها العربي، وما أكثر ما اتفق مكرم واختلف مع كل من حوله وكان صاحب رأي جاد وأشهد أنه كان نزيهًا لايربط الشعور الخاص بالموقف العام بل يناقش الأفكار دون شخوص أصحابها ويتطرق إلى المعاني دون محاكمة البشر إلا ما ندر، وعندما اعترض وزير الإعلام الراحل صفوت الشريف على ترشيح مكرم أول مرة نقيبًا للصحفيين اتصل بي ذلك الكاتب الكبير وطلب مني إبلاغ الرئيس الراحل مبارك بذلك، وعندئذٍ أمر الرئيس بترشيح مكرم ومساندة الدولة له وقال لي عبارة لا أنساها: إن تاريخه يدعمه فوق أي رأي آخر. ودخل مكرم النقابة ليكون طرفًا في حواراتٍ متصلة مع زملائه وقد كان فيها من الاختلاف أكثر مما فيها من الاتفاق، فيها شفافية ووضوح ولكنها في مجملها - وفقًا لطبيعة مكرم - لا تفسد للود قضية. وأنا أتذكر اليوم أن المرة الوحيدة التي أرسل لي فيها الرئيس مبارك وريقة صغيرة فى أثناء اجتماع لعيد الإعلاميين كتب فيها الرئيس الراحل: أرجو تذكيري بموضوع مكرم فور انتهاء اللقاء. وكان ذلك يتصل بظلمٍ وقع على ابن مكرم حينذاك وهو دبلوماسي في جامعة الدول العربية، ولقد كان مكرم يحيل أي لقاء بينه وبين أي مسئول-صغيرًا أو كبيرًا-إلى استجواب ذكي يبحث من خلاله عن معلومة أو يتصيّد من خلاله خبرًا بحاسة الصحفي التي لم تفارقه حتى الأسابيع الأخيرة قبيل رحيله بعد أن وصل إلى قمة هرم المؤسسة الإعلامية المسئولة وفقًا لدستور البلاد وأصبح ممثلاً لمصر بين وزراء الإعلام العرب، وأتذكر أنه دعاني عام 2018 إلى ندوة كبيرة حول التعليم المصري حضرها الوزير الدكتور طارق شوقي وكل رؤساء تحرير الصحف ومسئولي صفحات التعليم وأخباره المكتوبة والمسموعة والمرئية، وكان لقاءً عميقًا تحاور فيه الجميع في تلك الندوة الموسعة تحت رئاسة مكرم محمد أحمد لمناقشة مستقبل البلاد على ضوء التطوير الجديد لنظام التعليم، ويهمني أن أسجل هنا قضايا ثلاثا احتلت موقع الصدارة في عقل الأستاذ مكرم وهي:
أولاً: كانت القضية الفلسطينية هي هاجسه الأول كما أن مستقبل السلام في المنطقة كان مسألة تحتل جزءًا كبيرًا من تفكيره دون تشنجٍ أو تعصب فلم يكن أسيرًا للماضي ولكنه كان في الوقت ذاته متمسكًا بالثوابت لا ينحرف عنها ولا يزايد عليها.
ثانيًا: ارتبط مكرم بقضية الوحدة الوطنية وحاور أحبار الكنيسة في الأديرة المصرية واقتسم مع الرهبان طعامهم لكي يؤكد المعاني النبيلة لوحدة الدم المصري كلما وقعت حادثة طائفية أو مرت بالبلاد سحابة قاتمة تحاول إظلام بعض العقول والقلوب تجاه القضية الراسخة في الوجدان المصري حول مبدأ المواطنة.
ثالثًا: بعدما تعرض مكرم لرصاصات غادرة وحفظته العناية الإلهية من موت محقق فإنه نظر نظرة موضوعية للجناة والتنظيم الذي يقف وراءهم لكي يقود فكر المراجعات مع قيادات الجماعة الإسلامية وغيرها من التنظيمات غير الشرعية فذهب إليهم وراء أسوار السجون يستمع ويناقش، يبحث ويفند حتى استقام لفكر المراجعات وقتها رصيد له قيمته بدعم من وزارة الداخلية المصرية ومصلحة السجون فيها، وكان من نتائج ذلك أن عاد إلى حضن الوطن وطريق الصواب عشرات من قيادات كانت قد سقطت فريسة التطرف والفكر المغلوط لسنوات طويلة، وقد كان ما فعله مكرم شجاعة غير مسبوقة مدفوعًا فيها بحاسة الصحفي النهم للمعرفة واستجلاء الأمور ولم يكن مندوبًا للدولة بل صاحب رأي مستقل طوال حياته. هذه صفحاتٌ مطوية من تاريخ كاتب مصري رفيع القدر عالي المكانة انسحب من حياتنا في ظل الطرقات الصاخبة لوباءٍ اكتسح البشرية وحرم الناس من التكريم الذي يليق بالراحلين العظام .. رحم الله مكرم محمد أحمد فقد كان كاتبًا صادقًا، ومواطنًا شريفًا، ووطنيًا مصريًا في كل الأوقات.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 8 يونيو 2021.
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/810439.aspx