كما أن أسعار البورصة تتغير من وقت لآخر، بل من يوم إلى يوم، فإن ذات الأمر ينطبق أيضًا على أسهم الدول فى المنظمات العالمية والساحات الإقليمية ووزارات الخارجية فى العواصم المختلفة، أقول ذلك بمناسبة ما شعرنا به من ارتفاع فى سعر السهم السياسى للدولة المصرية بعد أحداث غزة الأخيرة والموقف الشريف الذى لعبته مصر للوصول إلى وقف إطلاق النار وتثبيت الهدنة، وقد نظرت عواصم الدنيا ومراكز صُنع القرار الدولى إلى القاهرة وهى تقوم بدورها الطبيعى والطليعى تجاه القضية الفلسطينية التى يعتبرها المصريون فى العقود الثمانية الأخيرة قضية مصرية وليست قضية عربية فقط.
فالجوار الجغرافى والتاريخى يجعلان العلاقة العضوية بين مصر والحدود الفلسطينية مع قطاع غزة أمرًا كلف الدولة المصرية تكاليف باهظة، فيها خمس حروب وعشرات المواجهات مع تضحياتٍ ضخمة بشهداء القوات المسلحة والشرطة وكافة العناصر المدنية من صفوف الشعب المصرى، لأننا ندرك أن الشعب الفلسطينى على الجانب الآخر قد دفع فاتورة غالية من دماء الأطفال قبل الكبار، والنساء قبل الرجال، ووقف بصدورٍ عارية أمام الرصاص الإسرائيلى عندما هدمت الجرافات بيوت الفلسطينيين واعتدت فى صلفٍ وغرور على المقدسات الإسلامية والمسيحية بالقدس وغيرها.
ولأن مصر تعتمد دائمًا على المصداقية والشرف فى تعاملها مع الأشقاء والأصدقاء، بل وأيضًا مع الخصوم والأعداء، فإنها ظلت متمسكة بالثوابت لا تفرط فى مبدأ واحد يرتبط بالحقوق الفلسطينية المشروعة فى الأرض والوطن والسيادة والشراكة الدولية التى تتناسب مع تاريخ ذلك الشعب الصامد أمام آلة الحرب وما يجرى فى كواليس الصراع الإقليمى ودهاليز العلاقات الخارجية للدولة العبرية، لذلك فإننى أقول وبكل شفافية إن مصر قد حققت إنجازًا مبهرًا بالمواقف الحكيمة والقرارات الشريفة التى ارتبطت بوساطتها فى تلك الأزمة الأخيرة.
.. وخرجت القاهرة من غمار تلك الأحداث لتستعيد مكانتها الإقليمية ودورها المركزى فى الشرق الأوسط، حتى سجلت بورصة العلاقات الدولية ارتفاعًا ملموسًا لاسم مصر على المستويين الإقليمى والعالمى، وكانت بورصة الدبلوماسية المصرية قد سجلت من قبل ارتفاعًا ملحوظًا أيضًا بعد المواجهة الحادة مع الوجود التركى على الأراضى الليبية ووقتها خرجت مصر ظافرة باحترام الشعب الليبى الشقيق الذى أدرك بفطرته أنه لا توجد لمصر أجندة خاصة، ولكن الذى يعنيها هو استقرار الدولة الليبية المتماسكة وازدهار شعبها الشقيق، وها هى البورصة الإقليمية تتهيأ لحساباتٍ جديدة ونحن على أعتاب مواجهة سياسية معقدة، أعنى بها الوقوف المصرى والسودانى أمام الغطرسة الإثيوبية والتصريحات المستفزة لرئيس وزراء أديس أبابا ومحاولات التصرف من جانب واحد مع تجاهل الأطر القانونية لنظرية الأنهار العابرة للحدود الدولية وتأكيدها للمعاملة المتساوية للدول المتشاطئة على ضفاف النهر من المنبع إلى المصب، وسوف يكون مطلوبًا من مصر المزيد من الحكمة وضبط النفس، فالمسألة ليست هى إثيوبيا وحدها، ولكنها مشكلة من يقفون وراءها وينسجون مواقف كيدية ضد مصر المستقبل لتعطيل مسيرتها النامية ونهضتها الشاملة، والذين يتعاملون مع أسهم البورصة الدولية يدركون أن سعر السهم المصرى فى ارتفاع مطرد لأن دورها الإقليمى ليس منحة من أحد ولكنه معطى تاريخى من تراكم الحضارات وتجذّر الثقافات حول مجرى النيل الخالد ودلتاه عند المصب.
كما اهتز المؤشر بسعر السهم السياسى المصرى فى الأسابيع الأخيرة برغبة تركيا تحسين علاقاتها مع مصر، وهو أمر فعلته أيضًا الدولة الشقيقة قطر بمبعوث رفيع المستوى إلى القاهرة لتأكيد الرغبة فى إعادة العلاقات إلى وضعها الطبيعى مع الشقيقة الكبرى.
إن بورصة الدول تعتمد على مكانة كل دولة وقيمتها فى سوق السياسة الإقليمية والدولية، مع التسليم بأن الدولة القوية راسخة الأركان متماسكة البنيان هى التى يرتفع سعر سهمها فى البورصة ويبدو متصاعدًا فى كل الأوقات، والذين يحاولون تجريد مصر من أهمية نيلها هم الذين يدّعون أيضًا أنهم هم الذين بنوا أهراماتها، فالكنانة تاريخ وحضارة، تراثٌ وثقافة، مجدٌ وارتقاء، لذلك لن تقف فى طريقها ألاعيب الصغار ولا مكائد الخبثاء، وسوف يبقى سهمها محتفظًا بقيمته الكبيرة فى أحلك الظروف.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2348867