المسيحيون العرب هم فى معظمهم عرب أقحاح بدءًا من عرب المناذرة على تخوم بلاد فارس وعرب الغساسنة فى تخوم الشام الكبير وإن كان أقباط مصر وبعض الطوائف المسيحية فى بلاد النهرين هم استثناء يرتبط بانتشار المسيحية فى الشرق، والمسيحيون العرب موزعون على معظم الدول العربية بنسبٍ متفاوتة يقل عددهم فى الجزيرة العربية ودول الخليج بينما يندر وجودهم فى دول الشمال الإفريقى العربى باستثناء مصر التى تضم أكبر تجمعٍ مسيحى فى الشرق الأوسط فى ظل واحدةٍ من أقدم كنائس الأرض وهى الكنيسة الأرثوذكسية المصرية التى يتركز أتباعها فى مصر والسودان وفى إثيوبيا من قبل، والملاحظ أن عروبة المسيحيين فى المنطقة تبدو راسخة وعميقة كما أن ارتباطهم بالثقافة العربية الإسلامية أمرٌ ملحوظ فهم جزء لا يتجزأ من النسيج المصرى والسودانى والتركيبة الشامية العراقية، ولقد لعب المسيحيون العرب أدوارًا مشهودة فى التاريخ سواء فى النضال ضد الاستعمار الأجنبى مثلما حدث فى مصر أو فى مواجهة الدولة العبرية فى فلسطين وبرزت أسماء مسيحية فى قيادات النضال العربى بدءًا من مكرم عبيد وفخرى عبد النور وسينوت حنا فى مصر أو جورج حبش ونايف حواتمة فى فلسطين مع أسماء أخرى فى مختلف الدول العربية التى تضم بين أبنائها وجودًا تاريخيًا مسيحيًا كان ولايزال مكونًا كبيرًا فى النسيج العربى كله، كما أنهم شركاء على قدم المساواة مع أشقائهم المسلمين وبعض اليهود أيضًا فى بناء صرح الحضارة العربية الإسلامية منذ صدر الدولة الأموية مرورًا بالعصرين العباسى الأول والثانى حتى يومنا هذا، وإذا انتقلنا إلى دورهم فى تشكيل تراث المنطقة والحفاظ على الهوية العربية فسوف نجد أن دورهم ملحوظ ومقدر، فقد حافظت الأديرة على أمهات الكتب العربية والأجنبية وحمل الموارنة والروم الأرثوذكس والكاثوليك من العرب مسئولية التصدى للحفاظ على لغة الضاد وتأكيد مكانتها دوليًا وإقليميًا، ولا ننسى الدور اللبنانى المؤثر فى الثقافة العربية الحديثة كما ينبغى أن نتذكر دائمًا أن النهضة الثقافية العربية فى مصر قادها شوامٌ من بينهم نسبة كبيرة من المسيحيين العرب فى مجالات الأدب والصحافة والشعر والمسرح وصولاً إلى السينما والموسيقى والغناء، ومازالت أسماء تؤثر فى الساحة من أمثال خليل مطران وجورجى زيدان والأخوين تقلا وصولاً إلى نجيب الريحانى وفيروز وصباح وعشرات الأسماء غيرهم فى كل المجالات والتى تشير بوضوح إلى الشراكة الثقافية القوية بين الأغلبية المسلمة فى الوطن العربى ممتزجة بالوجود المسيحى الذى لعب دائمًا أدوارًا وطنية ومضى على طريق قومى حتى أن معظم دعاة القومية العربية فى الوطن والمهجر كانوا من المسيحيين الشوام بالدرجة الأولى، ذلك أنهم كانوا يلوذون بعروبتهم الراسخة التى تحميهم من أن يكونوا أقلية عددية فى ظل التمييز الدينى الذى عانوا منه طويلاً خصوصًا فى ظل الاحتلال التركى، ويهمنى هنا أن أسجل الملاحظات الثلاث التالية:
أولاً: إن المسيحيين العرب قد دافعوا عن المنطقة فى مواجهة الغزاة والبغاة دون تردد وكانوا فى كل الأحوال مكونًا منصهرًا مع غيره فى جسد أمتهم العربية، ولا نكاد نعرف خروجًا عن هذه القاعدة إلا حالاتٍ نادرة فى أثناء الغزو الصليبى مع نموذجٍ لقيط فى إطار الحملة الفرنسية على مصر عندما خرج المعلم يعقوب القبطى المصرى على كنيسته العريقة داعمًا الفرنسيس حتى برح البلاد على سفنهم مع انتهاء الحملة وقضى فى الطريق منبوذًا من الأقباط قبل المسلمين.
ثانيًا: لقد جرى تحول واضح للمشاعر الإسلامية تجاه الأشقاء المسيحيين رغم تنامى ظاهرة الإرهاب واكتواء العالمين العربى والإسلامى بل العالم كله بداء التطرف والتشدد حتى أصبحت الإسلاموفوبيا ملتصقة ظلمًا بدين يدعو إلى التسامح ويحترم أهل الكتاب ويرى أنه لا يكون مسلمًا إلا من آمن بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، فالمعاملة التى يلقاها المسيحيون العرب فى دول الخليج تبدو محل تقدير فقد أدرك الجميع أننا فى قارب واحد مهما تختلف الديانات لذلك ضم البلاط الملكى والأميرى فى عدد من دول الخليج العربى عناصر مسيحية تطفو عروبتها فوق كل شىء.
ثالثًا: لم يفلح الاستعمار الغربى فى استمالة المسيحيين العرب إلى جانبه بل كان عداؤهم له مثيلاً لمقاومتهم للاحتلال التركى على اعتبار أن كل من يعادى العروبة يعادى بالضرورة مواطنيها مسلمين ومسيحيين على السواء، ومازلنا نفاخر بأسماء مثل بطرس بطرس غالى ومجدى يعقوب وقبلهما جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة إلى جانب سلامة موسى ولويس عوض فى مصر وحنا مينة فى سوريا فقد انصهر الجميع فى بوتقة العروبة وأصبح رمزًا لها منذ أيام اليازجى وفيليب حتى ومى زيادة، فالعروبة للجميع والأديان علاقات مباشرة بين المخلوق والخالق لاتلوثها السياسة ولاينالها التعصب. إننى أكتب اليوم لكى أشير إلى الصفحات الناصعة فى التاريخ العربى المعاصر وكلها تؤكد حقيقة راسخة وهى أن الإسلام الذى حمل العروبة إلى بعض أقطار الأرض هو أيضًا الذى استوعبته العروبة وجعلته دينًا وثقافة وليس فقط شعائر ومعاملات، وتثبت الحياة يومًا بعد يوم أن الجامع والكنيسة هما دور للنقاء والصفاء والتطهر وغرس روح التسامح، فالأديان نقية كالماء والسياسة ملوثة كالزيت وعلينا أن ندرك كعرب دائمًا أن الدين للديان أما نحن فلنا الأوطان!
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 15 يونيو 2021.
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/812307.aspx