التقيته مؤخرًا فى إحدى المناسبات الاجتماعية ورأيت بصمات الزمن على وجهه وضربات القدر الموجعة على جسده المريض، ولكنى رأيت أيضًا فى بريق عينيه ومضات الفكر الخلاق والرؤية الاستباقية التى كلفته كثيرًا، إنه سعد الدين إبراهيم عالم الاجتماع الذى ضرب بسهمٍ فى الجانبين الأكاديمى والسياسى فى ذات الوقت، لقد عرفته فى سبعينيات القرن الماضى خلال سنوات تألقه أستاذًا بالجامعة الأمريكية بالقاهرة قريبًا من مراكز السلطة وكرسى السلطان فى مصر والأردن ودول أخرى فى الشرق الأوسط، فقد كان أستاذًا للسيدة الفاضلة سوزان مبارك فى الجامعة، كما كان أمينًا عامًا لمنتدى الفكر العربى فى عمّان، الأردن، وهو المنتدى الذى أنشأه الأمير الحسن بن طلال ولايزال رئيسًا له، وقد سعدت منذ عدة شهور بدعوة من سموه مشاركًا فى ندوة عبر وسائل التواصل الحديثة، وقد اقترب الدكتور سعد الدين إبراهيم أيضًا من الأمير الراحل طلال بن عبدالعزيز الذى كان معنيًا بالعمل العام والتعليم والخدمات الإنسانية فى الأقطار العربية، كما تعامل سعد الدين إبراهيم عبر مشواره الطويل والصعب مع شاعرة العربية الشهيرة الشيخة سعاد الصباح، وكان كل ذلك فى مجال العمل العام والخدمة الاجتماعية ومحاولة الارتقاء بالشعور القومى فى إطار واقعى ومضمون معاصر، لذلك خرج سعد الدين إبراهيم بفكره ورؤيته إلى خارج الصندوق دائمًا وما أكثر ما تعرض له من مشكلات سببتها له رؤيته المبكرة فى استشراف الأحداث وقراءة المستقبل، وأتذكر أنه قد دعا فى بداية تسعينيات القرن الماضى إلى مؤتمرٍ عن الأعراق والنِّحل فى الشرق الأوسط واختارنى وقتها- بحكم التخصص- لأكون رئيسًا لجلسة عن الأقباط فى ذلك المؤتمر الكبير، ولكن الدولة ضيقت عليه، فاضطر إلى عقده خارج مصر وهو ما دعانى إلى الاعتذار رغم إيمانى بفكرة المؤتمر وأهدافه البعيدة، وذات مساء كنت أحضر حفل زفاف ابن صديقى الناشر الكبير المهندس إبراهيم المعلم وبدأ رنين الهاتف المحمول، فإذا بصوتٍ بعيد غير مسموع- بحكم ضجيج حفلات الزفاف- يصلنى، تعرفت عليه على الفور، فهى السيدة باربرا إبراهيم، قرينة المفكر المصرى الكبير وشريكة مشواره الصعب، تبلغنى أنه قد جرى القبض على زوجها منذ ساعات قليلة، وتريدنى أن أساهم- مثل غيرى من أصدقائه وزملائه- فى معرفة أسباب ما حدث ومتى يعود طليقًا، وقد حاولت الاستفسار بقدر ما أتاحت لى الظروف حينها واكتشفت أن الأمر أكبر بكثير من حادث عابر، وأن سعد الدين إبراهيم معتقل بسبب مجمل أعماله التى مثلت تجاوزًا أمام النظام السياسى القائم باعتبارها خروجًا على النص المتعارف عليه حينذاك، وأنه قد مس بعضًا من المسكوت عنه فى أحوال الوطن وحياتنا العامة، ولقد مكث سعد الدين إبراهيم سنواتٍ محبوسًا على ذمة التحقيق أو لقضاء فترة العقوبة التى حكم بها القضاء المصرى، وقد تعقبت الدولة أعضاء مجلس إدارة مركز ابن خلدون الذى أسسه سعد الدين إبراهيم وظل حريصًا على استمراره، وأتذكر أن الرئيس الراحل مبارك قد اتصل بى هاتفيًا وكنت أحضر الذكرى السنوية الأولى لرحيل الملك الحسن الثانى فى العاصمة المغربية ممثلًا رسميًا عن البرلمان المصرى، وقال لى: (لماذا كنت عضوًا فى مجلس أمناء ابن خلدون أنت وصفوة النخبة المصرية، بمن فيهم وزراء ومسؤولون كبار؟)، فقلت له: (يا سيدى الرئيس، لقد أمضيت السنوات الأربع الأخيرة سفيرًا فى فيينا ولم أكن مواظبًا على حضور اجتماعات المركز، ولكننى أظنه كان أمرًا إيجابيًا فعالًا، وأن سيادتكم والأسرة كنتم تحملون تقديرًا لعالِم الاجتماع سعد الدين إبراهيم)، ولم يعترض الرئيس على حديثى، ولكنه أضاف أن هناك تجاوزات للمركز وصاحبه قدمناها للقضاء، وقد علمت أن الرئيس قد تلقى رسالة بعد الحكم على سعد الدين إبراهيم بالسجن لعدة سنوات، خاطب فيها الرئيس الأمريكى الرئيس المصرى الراحل بكلمة (السيد الرئيس) بدلاً من عبارة (عزيزى حسنى) التى كان يخاطبه بها فى رسائل سابقة تعبيرًا عن الحميمية ومؤشرًا للصداقة، لقد تحركت دوائر كثيرة فى العالم أكاديمية وسياسية تدافع عن سعد الدين إبراهيم وتطلب العفو له، وأنا أكتب اليوم عن شخصية أثارت دائمًا الكثير من الجدل وكادت تملأ الدنيا وتشغل الناس، ولكننى أقرّ- رغم اختلافى مع بعض أطروحاته- احترام جيلى لتلك العقلية المؤثرة والشخصية الاستثنائية فى حياتنا الفكرية، وأتمنى له صادقًا الصحة وطول العمر واستمرار العطاء.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2359756