سوف تظل قضية التعليم هى البند الأول على لائحة التقدم ومعايير النهضة، لذلك ارتبطت حالات التغيير الكبرى للشعوب المختلفة والاتجاه إلى الأفضل بالتركيز على التعليم والارتقاء به ليكون مدخلًا رئيسًا للوصول إلى نتائج الحداثة واقتحام أسوار المعاصرة لترتقى الشعوب وتنهض الأمم، وليست تجارب غيرنا فى هذا السياق خافية على أحد، ولو سألنا مهاتير محمد من ماليزيا، ولى كوان يو من سنغافورة وغيرهما من قادة الدول الآسيوية الصغيرة التى عبرت فى العقود الأخيرة حواجز الفقر والتخلف لاكتشفنا أن التعليم كان هو المتغير المستقر الذى تبعته المتغيرات الأخرى بعد ذلك، فالتعليم هو بحق بوابة الطريق إلى المستقبل، والذى يحمله كأنما يحمل جواز سفر شرعى يسمح له بالمرور إلى آفاق واعدة والحديث عن التغير النوعى والنقلة الحقيقية للأفراد والجماعات، ويهمنى أن أسجل هنا حدود الاشتباك بين التعليم كقضية وبين متغيراتٍ تدور حوله وتحدد إطاره الحقيقى، ومنها:
أولًا: يتعين علينا أن نعترف بدايةً أن التعليم هو المحرك الأقوى نحو الصعود الطبقى، ودليلى على ذلك أن سنوات الحراك الاجتماعى قد اقترنت بدرجة الإتاحة الموجودة للتعليم العام الذى ترعاه الدولة، بل تنفق عليه منذ أيام على باشا مبارك نفسه، وهو أب شرعى للتعليم المصرى، انطلق فى بدايته من أسرة فقيرة، وشق طريقه فى ظل أوضاع صعبة نحو المناصب العليا والمراتب المرموقة، ولا يقتصر الأمر عند هذه النقطة وحدها، إذ لاحظنا أن التعليم لا يؤدى إلى الصعود الطبقى فقط، ولكنه يقترن أيضًا بالرقى الأخلاقى واحترام القيم الجديدة للطبقات التى ينتمى إليها المتعلمون، ولذلك فإننا قد لاحظنا فى العقود الأخيرة وجود مظاهر طبقية تحيط بالتعليم وتصعد به لكى يكون مؤشرًا اجتماعيًا لحركة الطبقات ونموها، وعلى الذين يتحدثون عن ديمقراطية التعليم أن يدركوا أن العوامل المادية أصبحت تلعب دورًا متحكمًا فى أنماط التعليم ونوعيته برغم الثرثرة الدائمة عن مجانية التعليم وإتاحته للجميع، خصوصًا فى مراحله الأولى.
ثانيًا: لقد أدى التقدم التكنولوجى الناجم عن توظيف التعليم فى خدمة الصناعة إلى مشهدٍ مختلف يكاد يؤدى إلى فجوة بين الأجيال نتيجة القفزات الهائلة على صعيد التكنولوجيا فى العقود الأخيرة، حتى إن بعض الاختراعات لا تجد طريقها إلى التنفيذ لأن بدائل أفضل تلاحقها، فنصبح بالتالى أمام سباقٍ محموم لأجيالٍ من الكشوف العلمية والاختراعات الجديدة، وقد أكدت التجربة المصرية الحديثة فى الأعوام الأخيرة هذه المشكلة تحديدًا، إذ إن إدخال أساليب التقدم التكنولوجى فى العملية التعليمية قد أثار جدلًا واسعًا فى المجتمع المصرى، خصوصًا فى شرائحه الدنيا وفى المناطق الريفية، إذ بدا مستعصيًا على كثير من الطبقات المُهمَّشة أن تتابع التطورات العصرية للعملية التعليمية، ولست أشك أن الأمر سينتهى بانتصار التحديث والعصرنة وإيجاد أساليب تسمح بالتدريب على استخدام آليات التطور فى هذه المسألة شديدة التأثير على المستقبل، ونحن نظن أن الأمر يحتاج إلى جهدٍ كبير وتحولات ضخمة فى أساليب التفكير وأنماط الاختيار والتركيز على التعليم الفنى الذى تحتاج إليه البلاد.
ثالثًا: إن التعددية فى أنواع التعليم قد تكون مؤشرًا إيجابيًا ولكنها تحتوى فى الوقت ذاته على دلالاتٍ أخرى تفتح ولو من بعيد بعض ملفات الصراع الطبقى والتفاوت الاجتماعى، فلدينا تعليمٌ عام وتعليم خاص، ولدينا تعليم أجنبى وتعليم مصرى، ولدينا تعليم دينى وتعليم مدنى، ومع اعترافى الكامل بكل محاولات الدمج بين هذه الأنماط المختلفة، إلا أننا لم نتمكن حتى الآن من العبور وصولًا إلى حالة الانصهار بين مصادر التعليم فى بلادنا، وهنا ألفت النظر بشدة إلى أهمية التدريب، الذى قد يتفوق على عملية التعليم نظريًا، فالحاجة مُلِحة إلى المزيد من الاهتمام بالبُعد الاجتماعى للتعليم المصرى، وعندما كان التعليم لا يزال جيدًا فى بلادنا فإن المدارس العامة كانت تستقطب كافة طبقات المجتمع بلا تمييز، إذ يجلس أبناء الأغنياء كتفًا بكتف مع أبناء الفقراء، وكانت تلك خدمة كبرى للهوية المصرية وانصهار الأجيال فى سبيكة وطنية واحدة.
نخرج من هذه الملاحظات الثلاث برؤية حذرة تدعو إلى التدقيق فى العلاقة بين التعليم والتكنولوجيا الحديثة فى جانب وبين التعليم والطبقات الاجتماعية فى جانب آخر، فضلًا عن دوره فى تحريك المسارات بين فئات المجتمع وقطاعاته، مدركين أن طريق مصر الوحيد نحو النهضة الحقيقية والتقدم المنشود لن يتحقق إلا بالتركيز على قضايا التعليم والظروف المحيطة به والمصاعب التى تعترض طريقه حاليًا.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2373782