حكت لى ذات يوم الأستاذة الدكتورة زينب السبكى- رحمها الله- رائدة بنوك الدم فى مصر، وقد كانت زميلتى فى جمعية الصداقة المصرية النمساوية، عضوًا فى مجلس الشورى، أنه بعد استشهاد الرئيس السادات ومرور أربعين يومًا على ذلك الحادث المروع، رأت الدكتورة زينب أن تدعو سيدة مصر الأولى الجديدة، على غداء رسمى مع مجموعة من الصديقات احتفالًا بالسيدة الفاضلة سوزان مبارك، وذلك بمنزل الدكتورة زينب أمام حديقة الحيوان بالجيزة.
وقد قبلت السيدة سوزان الدعوة، وأبلغتها الدكتورة زينب أنها سوف تدعو السيدة الفاضلة جيهان السادات، ضمن مجموعة المُرحِّبات بالسيدة الأولى الجديدة، وعندما اقترب موكب قرينة الرئيس الراحل مبارك قررت الدكتورة زينب أن تهبط إلى مدخل العمارة لاستقبال الضيفة الكبيرة، وكانت دهشتها بالغة عندما قالت لها السيدة جيهان إنها ستهبط معها عند مدخل المنزل، وبالفعل ذهبت معها واستقبلت السيدة سوزان بالحفاوة والتقدير اللذين يليقان بحرم رئيس الجمهورية، وهو الوضع الذى كانت فيه جيهان السادات قبلها بأربعين يومًا، وقد أكبرت كثيرًا هذا الموقف، الذى يدل على التواضع الشديد من جانب السيدة، التى رحلت عن عالمنا هذا الأسبوع، ولا أزال أتذكر أول لقاء لى معها على مائدة القنصل العام فى لندن، السفير الراحل محب السمرة، وكان ذلك فى أواخر عام 1971.
وكنت حينها مجرد سكرتير ثالث (نائب القنصل)، وجمعتنى مائدة الغداء مع الراحلة العظيمة وابنتها العزيزة، السيدة لبنى، وبعد أن قدمنى القنصل العام لها، فوجئت بها تخاطبنى طوال الوقت بكلمة (حضرتك)، ولم يكن هناك مَن يقولها لى فى تلك السن المبكرة بالمرحلة الوظيفية الأولى، وكان حديثها شيِّقًا، ومعنا على نفس المائدة رائد القصة القصيرة، الراحل يوسف إدريس، الذى كان يخضع للعلاج وقتها فى العاصمة البريطانية، وكانت جلسة رائعة بدت فيها السيدة العظيمة واحدة منّا دون مراسم أو رسميات، وعندما ذكرت لها أن السفير يحيى سامى، رحمه الله، قدم إلى القاهرة للعلاج، وهى تعلم أنه متزوج بقريبة مباشرة للسيدة الجليلة تحية عبدالناصر، فإذا بالسيدة جيهان تتحدث باحترام وتوقير شديدين عن عبدالناصر بعد رحيله، وتذكره بكلمات فيها اعتراف بالفضل واحترام للتاريخ.
وقد جمعتنى بالسيدة جيهان بعد ذلك مناسبات قليلة، فبعد أن تركت مؤسسة الرئاسة التقيتها فى حفل تخريج أحد أحفادها فى مدرسة صديق لى، وأدهشتنى حفاوتها البالغة وأدبها الجم، وكانت تذكر فى الحديث معى اسم الرئيس مبارك بلقب «سيادة الرئيس»، لقد كانت رحمها الله قادرة على تقبل الأوضاع الجديدة فى كل وقت والتواؤم مع الظروف المتغيرة، ولم تَعِشْ أبدًا فى جلباب الماضى، فكانت تحضر المناسبات الاجتماعية المختلفة، وتغشى الاجتماعات النسائية، وتشارك فى الأفراح والأحزان بلا تردد، وقد جمعتنى بها فى السنوات الأخيرة قبل رحيلها مناسبات متعددة من خلال صديق مشترك، هو رجل العلاقات العامة، خبير السياحة، السيد عمرو بدر.
وأذكر لها بكل العرفان أنها كانت حريصة فى السنوات الأخيرة على حضور عيد ميلادى، الذى يقيمه لى الأصدقاء كل عام، فى تواضع وهدوء لا أنساهما أبدًا، وكنت أتواصل معها هاتفيًا فى العامين الأخيرين بانتظام، مستفسرًا عن صحتها سائلًا الله أن يعطيها العافية، فقد كانت سيدة صبورة قوية الاحتمال، شغلت كرسى السلام الذى أنشأته إحدى الجامعات الأمريكية تكريمًا لزوجها الراحل، وظلت تتردد بين الولايات المتحدة والوطن فى مصر كل فترة، وتحرص على لقاء الأصدقاء والصديقات والأقارب والمعارف، فى ودٍ ومحبة ورقة زائدة.
واليوم إذ تنعاها الدولة المصرية شعبًا ورئيسًا وحكومة، فإننا نتذكر لها المآثر الكبيرة من أجل تمكين المرأة المصرية ورعاية حقوقها تشريعيًا وإداريًا، وعندما دعاها الرئيس محمد مرسى، فى احتفال السادس من أكتوبر، وقام بتكريمها، وهو يجمع حوله بعض مَن شاركوا فى جريمة اغتيال زوجها، كانت السيدة جيهان صلبة وصامدة، إلى أن رد إليها الرئيس السيسى والسيدة الفاضلة قرينته «انتصار» جزءًا كبيرًا من اعتبارها، فاستردت مكانتها، مُحاطة بحب الشعب، ثم غابت بعد رحلة مع المرض ليذكرها المصريون دائمًا بالاحترام والحب والدعاء بالرحمة فى الملكوت الأعلى.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2378411