يعنُّ للمرء أحيانًا أن يفكر فى تأثير الاكتشافات العلمية والتغيرات المادية على حياة البشر وطبيعة العلاقات بينهم.. فاختراع العجلة كان نقلة نوعية فى الحياة المدنية والحروب العسكرية، بدءًا من عربة رمسيس الثانى فى حروبه الظافرة، لذلك فإن اختراعًا ما أو اكتشافًا بعينه يؤدى بالضرورة إلى تحولٍ جذرى فى مسار حياة البشر على كوكب الأرض.. ولقد ظلت الموانئ هى الرئة التى تتنفس بها الدول، حتى كانت المدن الساحلية أكثر أهمية من تلك الواقعة فى قلب الصحراء، ويكفى أن نتذكر أن مدينة الإسكندرية قد استحوذت على الاهتمام الكبير لعدة قرون، بل سبقت القاهرة فى كثير من الإنجازات خصوصًا فى القرن التاسع عشر عندما تزايدت حركة الموانئ وتكاثرت السفن على عروس البحر المتوسط وانتشرت فيها الجاليات اليونانية والإيطالية والأرمنية واليهودية والشامية، مما أعطى تلك المدينة التاريخية العظيمة مكانة عالمية وشهرة واسعة بين موانئ الشرق والغرب وليست موانئ البحر المتوسط وحده، لذلك انطلقت الطبعات الأولى من صحيفة «الأهرام» من مدينة الإسكندرية وازدهرت حركة التعليم الأجنبى فيها.
وإذا ذهبنا إلى الماضى السحيق، فسوف نكتشف أن خلفاء الإسكندر الأكبر، خصوصًا بطليموس الأول والثانى هما من شيدا مكتبة الإسكندرية بتراثها العريق ومكانتها الرفيعة، ويجب أن نتذكر دائمًا أن حركة الطيران لا يزيد عمرها على قرن ونصف، بينما تذهب حركة الموانئ البحرية إلى الماضى البعيد، حتى إننا نسمى «المطارات» «الموانئ الجوية»، امتدادًا لدور الميناء البحرى فى حياة الأمم والدول، لذلك كان طبيعيًا أن يبدأ الإسكندر الأكبر طموحاته فى إنشاء إمبراطورية الشرق من تلك البقعة الساحلية التى نشأت فوقها مدينة الإسكندرية، ومنها انطلقت أيضًا الغزوات والحملات التى دخلت إلى القطر المصرى، بدءًا من نابليون وفريزر، ثم الاحتلال البريطانى الذى ضربت مدافعه سواحل الإسكندرية عام 1882.. لقد كانت المدينة الميناء هى المفتاح الحقيقى للدولة فى ذلك الوقت.. ولكن اكتشاف الطيران غيّر من المعالم وأحال الأهمية إلى المدينة الأكبر، باعتبارها عاصمة البلاد، بغض النظر عن أنها ساحلية أم لا، ولذلك كان طبيعيًا أن تقود العالم دول بحرية، فكان الأسطول البريطانى هو سيد البحار لعدة قرون فى ظل الظاهرة الاستعمارية التى شاركته فيها الدولة الفرنسية، وذلك بعد قرونٍ سبقتها استأثرت فيها إسبانيا والبرتغال بالسيادة البحرية حتى تصدرت عصر الكشوف الجغرافية، فالسيادة البحرية ارتبطت بالموانئ الكبرى، وفرقت بشكلٍ واضح بين الدول المطلة على البحار والدول الأخرى المغلقة التى ليست لها منافذ على موانئ البحار المفتوحة..
ولنا أن نتخيل الآن لو أن حركة الطيران لم تبدأ منذ نهايات القرن التاسع عشر، لكان الوضع مختلفًا تمامًا، ولظل اهتمام العواصم بأن تقع على الأنهار الكبرى بدلًا من البحار الدولية،.. ولعلى أشير بهذه المناسبة إلى ملاحظتين مهمتين:
الأولى: أن صعود الأمم ونهوض الشعوب يرتبط دائمًا بمحاور التقدم التى يفرزها العقل البشرى باكتشافاته المذهلة واختراعاته الكبرى، ويبدو بعضها محورًا للتقدم وسبيلًا للانتقال من عصر إلى عصر ومن مرحلة من المعاناة إلى صعيدٍ جديد للرفاهية التى توفر الجهد والوقت والمال.. ويعتبر اختراع الطيران واحدًا من القفزات الكبرى التى أثرت على الجغرافيا والتاريخ والعلاقات بينهما وغيّرت من المكانة الاستراتيجية لكثيرٍ من الدول بعد ذلك، حتى حلت الأساطيل الجوية بديلًا للأساطيل البحرية، بما فى ذلك الاستخدام الكثيف للطيران العسكرى فى المواجهات والحروب.
الأخرى: لو أننا تصورنا أن العالم وقف عند حدود السيطرة البحرية، وظلت السفن تجوب البحار وتنقل البشر مع قصص شهيرة لعظمة تلك الناقلات البحرية ومآسيها فى ذات الوقت، وكان من أشهرها فى القرن الماضى غرق الباخرة تيتانك عام 1912 والتى أصبحت جزءًا من دراما السفر وحوادثه الكبرى.. لو أننا ظللنا كما كنا ولم يدخل الطيران عالم النقل البشرى والتبادل التجارى والحروب الدامية، لكانت حياتنا مختلفة تمامًا عما هى عليه الآن، لذلك فإننا مطالبون دائمًا بالتفكير، بل التأمل فى محاور التطور ونقلاته الكبرى عبر التاريخ.
إن العلاقة بين الطائرة والباخرة، وبين الميناء الجوى والميناء البحرى، هى نقلة نوعية فى حركة الانتقال بين الدول، دون المرور بالموانئ ذات الشهرة الكبرى التى تقلص فيها الانتقال البشرى وتزايد معها التبادل التجارى منذ أن أطل الطيران بتقنياته واقتصادياته وإنجازاته، بل كوارثه أيضًا!.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2390358