يجدر بنا أن نفكّر طويلاً وأن نتأمل مليًا ما يحيط بمستقبل الجنس البشرى من تحدياتٍ ومشكلات، ولعل أولها على الإطلاق هو ما يتصل بالأزمات الطارئة والمشكلات المزمنة وغيرهما من العقبات التى تلوح فى الأفق وتنذر بمتاعب وصعاب تضاف إلى هموم الجنس البشرى الحالية، وكما جاء فى الذكر الحكيم (لقد خلقنا الإنسان فى كبد) فإن ذلك يعنى أنه قد كتب علينا المعاناة والمشقة، فالحياة سلسلة متصلة من الضغوط والاختيارات الصعبة والمواقف الحادة، لذلك يجب التركيز فى كل دراساتنا على النظرة المستقبلية واستشراف ماهو قادم لأن الغد يحمل فى طياته كل جديد أو غريب أو عجيب بحيث أصبح التنبؤ بما نحن مقدمون عليه أمرًا شديد الصعوبة يحتاج إلى قدرةٍ كبيرة على المضى وراء النهج العلمى لطرح التوقعات ومناقشة الاحتمالات، ويهمنى هنا أن أطرح مجموعة من القضايا الكبرى التى تهدد الجنس البشرى وتستزف جهوده وتطيح بإنجازاته، أختار منها الموضوعات المهمة التى تحتاج إلى مواجهة عاجلة ومنها: تغير المناخ ونقص الطاقة وشح المياه وتلوث البيئة والزيادة السكانية الإجمالية على مستوى الكون وأمراض التكنولوجيا الحديثة والحرب الاقتصادية الحالية فهذه العناصر السبعة تشكل حاجزًا عنقوديًا بين الإنسان وآماله وتطلعاته، وسوف أحاول مناقشة كل تحدٍ مما ذكرناه:
أولاً: أصبحت التغيرات المناخية حقيقة واقعة تستدعى الكوارث الكبرى بما فى ذلك السيول الجارفة والحرائق الضخمة التى تطيح بالأشجار والغابات وبالبيوت والبشر، إذ أن درجات الحرارة فى كثيرٍ من مناطق العالم حاليا قد بدأت تخرج عن معدلاتها الطبيعية وتأتى بأرقامِ غير مسبوقة انخفاضًا وارتفاعًا وهو أمر نجم عنه كثير من الأضرار لشواطئ البحار مما أدى إلى نحر اليابسة مثلما يحدث مع شواطئ الدلتا المصرية وغيرها من الشواطئ فى أنحاء العالم وهو أمر يهدد المدن والعمران على المدى الطويل ويترك بصمات على الخريطة التى عشنا فى ظلها آلاف السنين، ولقد استأثر موضوع تغير المناخ باهتمام عالمى كبير إلى أن انسحبت من مباحثاته الولايات المتحدة الأمريكية فى عهد الرئيس السابق ترامب ثم عادت إليها بعد رحيله، وما أكثر الدراسات المعنية بهذا الموضوع نظرًا لخطورته وأهميته والسباق مع الزمن فى مواجهته.
ثانيًا: إن نقص الطاقة هو أحد الأمور التى تقلق المعنيين بشئونها والدارسين لمصادرها التى بدأت تتناقص مع مر السنين، فالطاقة السائلة والغازية والكهربائية والنووية هى قضايا مفتوحة غير محسومة نظرًا لتأثيرها على الجنس البشرى فى كل مكان، وحين تنخفض درجات الحرارة فإننا نشعر بأهمية الطاقة فى حياتنا، فهى مصدر أساس لديمومة الحياة كما أنها وقود الوجود، ولاشك أن ندرة الطاقة أحيانًا مؤشر خطير يهدد التنمية بل يهدد الحياة ذاتها وينذر بأوخم العواقب.
ثالثًا: قالوا إن القرن العشرين كان قرن النفط والصراعات حوله، وأن القرن الحادى والعشرين هو قرن الصراعات حول المياه ولننظر إلى الخريطة العربية لنرى أزمة نهر الفرات بين تركيا وجيرانها فى العراق وسوريا، وأزمة نهر النيل بين مصر والسودان فى جانب وإثيوبيا فى جانب آخر، وواقع الأمر أن حروب المياه هى واحدة من التوقعات التى تلوح فى الأفق لا فى الشرق الأوسط وإفريقيا وحدهما ولكن حول أحواض الأنهار فى شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وغيره من مناطق العالم المهددة بالعطش وتوقف التوسع الزراعى وانهيار برامج التنمية، فالمياه هى عصب الحياة.
رابعًا: إن أكثر من سبعة مليارات نسمة بفضلاتهم وإفرازاتهم فضلاً عن عوادم السيارات والقاطرات والطائرات هى كلها بعض العناصر المؤثرة فى البيئة والمؤدية إلى كثيرٍ من الأمراض والتى بدأت تغزو حياتنا، بل إن هناك عواصم كبرى تعانى بعض أجوائها زيادة نسبة الرصاص فيها الناتج عن عوادم المصانع وأبخرة المسابك وكلها مظاهر للتقدم الصناعى يصعب تجنبها، كما أن الأبخرة المتصاعدة من الإنسان والحيوان لها أيضًا تأثيرها فى تلوث البيئة وتدهور درجة نقاء الهواء برغم محاولات تعويض ذلك بالزراعات والأشجار ومختلف أنواع النبات.
خامسًا: ارتبط ظهور وباء الكورونا بالكثير من الكتابات المتشائمة التى تتحدث عن ضرورة تخفيض أعداد الجنس البشرى الذى أصبح يزيد على سبعة مليارات نسمة تستأثر فيه الصين والهند وبعض الدول بنسبةٍ كبيرة، ومع ذلك فقد بدأ الكثير من العلماء يجاهرون بضرورة تخفيض عدد السكان فى الدول التى تعانى زيادتهم لأن الأمر أصبح يمثل خطرًا حقيقيًا على مستقبل الجنس البشرى بحيث عدنا إلى النظريات المتشائمة فى علم السكان وأصبحت أسماء مثل مالتس ودوركايم مطروحة بكتاباتها على مائدة الحوار حول التوازن الذى يحقق الحجم الأمثل لعدد السكان خصوصًا أن الحروب الكبرى قد تراجعت ويبدو أن الأوبئة الجديدة هى البديل المنتظر عنها، وإن كنت لا أميل لهذه الآراء المتشائمة إلا أن ذلك يمثل قدرًا كبيرًا من المخاوف تجاه مستقبل البشر.
سادسًا: إن أمراض التكنولوجيا الحديثة لا تتوقف عند حد، فإذا كان التقدم العلمى نعمة إلا أنه فى ذات الوقت نقمة أيضًا فللتكنولوجيا أمراضها، والتقدم الهائل فى وسائل الاتصال يحمل فى طياته أيضًا بعض السلبيات فهو يفتح ملفات ساخنة فى وقت واحد ويضع الجنس البشرى أمام مزيد من الخوف والترقب، كما أن التكنولوجيا الحديثة قد قضت إلى حد كبير على الحياة الاجتماعية ومظاهر الدفء الإنسانى وأصبحنا أمام حالة من التصحر والجفاف ونقص أسباب المودة وأواصر العلاقات الإنسانية المعتادة.
سابعًا: لقد انتهت الحرب الباردة بين كتلتين وهى حرب استمرت عشرات السنين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى سقوط حائط برلين وانهيار الكتلة الشيوعية وتفتت الاتحاد السوفيتى السابق، ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد فقد تولدت حرب اقتصادية تسيطر على العالم خصوصًا ما يتصل منها بالعلاقات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية فى جانبها التجارى والمالى بل التقنى أيضًا، وذلك يعنى ببساطة أننا مهددون بحالة من عدم الاستقرار وبأزمات اقتصادية طاحنة ومشكلات دولية قد يطول أمدها.
هذه قراءة عامة فى بعض أوراق المستقبل ولكنها تؤكد جميعها أن علينا التوقف عن اجترار الماضى والتهيؤ إلى المستقبل برؤية شاملة ونظرة متكاملة ووعى بكل ما يحيط بنا.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/818865.aspx