كدأبها فى مواكبة الأحداث والتطورات المهمة فى مصر والإقليم والعالم من حولنا نظمت مكتبة الإسكندرية ملتقى مهماً بعنوان مصر الغد: الجمهورية الجديدة نموذجاً بمشاركة نخبة من المهتمين بقضايا الوطن من كل التوجهات وحضور لافت من الشباب كما يحرص دائماً مديرها القدير المفكر الكبير الدكتور مصطفى الفقي، وقد بدأت وقائع الندوة بفيلم قصير حول موضوعها تلته كلمة الدكتورة مى مجيب المديرة الشابة الناجحة لمركز الدراسات الاستراتيجية بالمكتبة الذى أوكل لها الدكتور مصطفى الفقى مهمة التخطيط للندوة وتنفيذها فخرجت على أفضل وجه، وحرصت الدكتورة مى فى كلمتها على إعطاء صورة موجزة شاملة عن هدف الندوة ومضمونها، ثم قدمت الدكتور الفقى الذى ألقى بدوره كلمة شاملة جامعة موجزة انطبق عليها الوصف الصوفى “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة” أكد فيها أننا إزاء وضع جديد تشهده مصر وخبرته قبلها دول كفرنسا (ديجول وجمهوريته الخامسة على سبيل المثال)، وأثنى على فكرة انطلاق الجمهورية الجديدة من دستور٢٠١٤ لأن الجمهوريات الجديدة ترتبط بدستور جديد ينظم العلاقات بين المواطن والدولة وبين مؤسسات الدولة ذاتها، وركز على بعدين تنطوى عليهما عملية البناء الجديد أولهما مؤسسى يشير إلى دعم مؤسسات الدولة كى تنهض بمسئولياتها، والثانى قيمى يحتم التخلص من القيم والتقاليد البالية والاتجاه إلى القيم العصرية وإعمال معايير الحداثة فى التفكير العلمى كنهج أكيد لتحقيق التطور والوصول به إلى غايته، ولم يفته تأكيد أن السياق الحالى يهيئ الظروف لاستعادة الدور المصرى الإقليمى الذى تراجع عندما ضعفت مصر، ومن المهم أنه لم يربط هذا الدور بقوة مصر المادية فحسب وإنما بقوتها الناعمة أيضاً، فعندما تراجع النظام التعليمى وتهاوت أعمدة الثقافة انكمش تلقائياً دورها الإقليمي، وهو حكم دقيق لمسناه جميعاً فى السنوات الأخيرة من عمر نظام ماقبل ثورة يناير٢٠١١، ثم انتقل لبيان دور المكتبة ومسئوليتها فى عملية البناء الجارية على أرض مصر الآن، فهى إحدى مؤسسات الدولة، بل إنها المؤسسة الوحيدة التى تشرف بأن رئيس مجلس أمنائها هو رئيس الدولة الذى يقود بحسم عملية الانطلاق الحالية، ويحتاج إلى مشاركة الجميع وجهدهم دون استثناء، ومن المهم أنه أكد الطابع التنويرى لدور المكتبة، فهى وإن كانت شريكاً سياسياً فى كل ما يجرى بحكم أنها ليست طائراً يحلق فى الفضاء بعيداً عن هموم الوطن إلا أنها لا تتدخل فى الحياة السياسية وإنما تقف مع الوطن وأفكار تطويره وإنمائه ونهضته.
ثم بدأت أعمال الندوة وفقاً لمحاورها الثلاثة وأولها عن خبرات المشاريع النهضوية المصرية فى التاريخ الحديث والمعاصر، والثانى عن هوية مصر والتحديات الإقليمية والدولية، والثالث عن موقع المواطن المصرى بين أولويات اليوم وتوقعات الغد، وقد تحدث فى المحور الأول ثلاثة من كبار الأساتذة المتخصصين، فقدمت الأستاذة الدكتورة لطيفة سالم رؤية شاملة وأمينة عن تجربة محمد على بكل أبعادها ونجاحاتها فى المجالات الزراعية والصناعية والتعليمية والعسكرية وغيرها، وحلل الأستاذ الدكتور محمد عفيفى خبرة المشروع النهضوى فى عهد الخديو إسماعيل، وإذا كان ثمة إجماع وطنى على القيمة التاريخية لتجربة محمد على فقد عُنى الدكتور محمد عفيفى بتفنيد الصورة النمطية المشوهة للخديوى إسماعيل الذى أعاد تجربة محمد على وإن بشكل مختلف، وركز على دوره فى تأسيس نظام جديد وبالذات إنشاء مجلس شورى النواب١٨٦٦ وبناء عاصمة جديدة لمصر هى القاهرة الخديوية بكل ما صاحبها من تغير فى الحياة المصرية كما فى إنشاء دار الأوبرا والكتبخانة وغيرهما، كما ركز على إعادته بناء الجيش المصرى وحروبه فى الجنوب للدفاع عن منابع النيل، وإزاء الهجمات المستمرة على تجربة يوليو عُنى الأستاذ أحمد الجمال بتأكيد النقلة القيمية التى أحدثتها ثورة يوليو كإعلاء قيمة المساواة (كلنا سيد فى ظل الجمهورية) وقيم الاتحاد والنظام والعمل والتخطيط، كما أبرز الإنجازات المادية كمضاعفة الدخل القومى وتغيير التركيب الاجتماعى وتحقيق التماسك الداخلى الذى مكن عبد الناصر من التصدى الناجح لمحاولات الخارج الطغيان على الداخل، ولم يفته التركيز على صعود قوة مصر الناعمة فى ظل تجربة يوليو فى مجالات التعليم والآداب والفنون والإعلام، فإذا كان الخديو إسماعيل قد بنى الأوبرا فإن المعاهد الفنية الرفيعة قد بُنيت فى عهد عبد الناصر، ونفى عن إعلامه أن يكون إعلام الصوت الواحد، مشيراً إلى قامات فكرية رفيعة كان لها عطاؤها بالغ الثراء فى التجربة.
وإذا كانت هذه الندوات القيمة تعقد بهدف التوصل إلى خلاصات تنير الطريق إلى المستقبل فإن اللافت ما اتضح فى المداخلات الثلاثة القيمة للجلسة الأولى من أن تجارب النهضة الثلاث قد انتهت بتدخل خارجي، وهو أمر شديد الوضوح فى تجربة محمد على كما نعلم جميعا، وكما عرضت الدكتورة لطيفة سالم بكل دقة وأمانة حينما أشارت إلى أن انكسار محمد على جاء من الخارج، وهو نفس ما أشار إليه الدكتور محمد عفيفى عندما ذكرنا بأن عزل إسماعيل قد تم بتدخل أوروبى لدرجة أنه تساءل عما إذا كان مسموحا لمصر فى ظل أوضاع إقليمية ودولية معينة بإنجاز تنمية حقيقية، وهو نفس روح التساؤل الذى طرحه الأستاذ أحمد الجمال فى معرض حديثه عن تعثر التجربة الناصرية، فقد تساءل كيف نستطيع البناء فى الداخل دون استفزاز إقليمى ودولي؟، وليس معنى هذا بطبيعة الحال غياب مسئولية العوامل الداخلية عن تعثر التجارب النهضوية المصرية ولكنه يشير إلى الأهمية الحاسمة للعوامل الخارجية فى هذا التعثر، وقد انعكس هذا بوضوح فى مداخلات الجلسة الثانية للندوة فإلى المقالة القادمة بإذن الله.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/News/819179.aspx?fbclid=IwAR34Y5zeoTQupE_DK5_lvGteqjkGwnL8c26DkjuWgE-sTYBjOI97zqDtYmE