ظل البحر الأحمر هو الفاصل بين آسيا شرقًا وإفريقيا غربًا، تطل عليه دول عديدة عربية وغير عربية ولكنه يظل واحدًا من أهم البحار المفتوحة وأكثرها قيمة استراتيجية فى ذات الوقت، وهو البحر الذى يبدأ بمضيق باب المندب وينتهى بقناة السويس بحيث يصبح هو همزة الوصل بين الجنوب والشمال مثلما تجمع ضفتاه بين الشرق والغرب. ولقد أدركت الدول العربية المطلة على ذلك البحر أهمية تعزيز العلاقات بينها والسعى نحو ترتيب استراتيجية حاكمة لأمن ذلك البحر الذى تحيط به قوى متعددة وتجعل منه بؤرة محتملة للصراع فى أى وقت، ولقد تحركت فى السنوات الأخيرة مبادرات مصرية وسعودية مع أطراف أخرى تطل على البحر الأحمر للسعى نحو إقامة تجمع إقليمى من الدول المطلة على ذلك البحر بما يحافظ على استقرار الأمن والسلم الدوليين، وقد يكون من المهم بداية أن نؤكد أهمية تطبيق فقه الأولويات بحيث تتحقق نظرة شاملة تستوعب مؤثرات الجغرافيا السياسية ومؤشرات الأمن القومى للدول المتشاطئة على هذا البحر الذى دارت من حوله الأساطير عبر التاريخ وشاعت القصص فى كل العصور، وهنا أبدى بعض الملاحظات:
أولًا: أنه يجب ألا يكون أمن البحر الأحمر موضوعًا للمزايدة بين الدول المرتبطة به ولكن الأهم هو ضمان أمن الملاحة فيه والقدرة على التعامل معه كبحيرة صداقة تجمع بين أطراف آسيوية وإفريقية لا أن يكون مجالًا للصراع أو الحرب المستترة وراء أى تفسيرات تسعى فقط للسيطرة وإبعاد الآخرين، ولحسن الحظ فإن الحديث عن منظمة إقليمية تضم دول البحر الأحمر بدأ يتردد وشهد العامان الماضيان اتصالات بين عدد من الدول خصوصًا مصر والسعودية لتعزيز أمن هذا البحر الكبير والاتفاق على تأسيس تجمع يضم الدول المعنية بأمن هذا البحر خصوصًا أن السنوات القليلة الأخيرة قد أفرزت مخاوف ربما تؤثر على سلامة الملاحة فيه.
وأولها: عمليات القرصنة البحرية التى شاركت فيها عناصر صومالية فى ظل فوضى الدولة هناك منذ عدة سنوات، فضلًا عن أن الخلاف الإثيوبى المصرى السودانى بشأن سد النهضة يثير هو الآخر مخاوف من استخدام هذا البحر الاستراتيجى كميدان مواجهة علمًا أن دول الخليج العربى حتى غير المتشاطئة على هذا البحر حرصت فى العقود الأخيرة على اختراق الشاطئ الإفريقى له والوصول إلى الأراضى الواسعة والمياه الوفيرة.
ثانيًا: إن أمن قناة السويس وأمن باب المندب مرتبطان ارتباطًا قويًا يمتد إلى مضايق الجيران ويصل إلى حدود البحر المتوسط، من هنا فإن عناية الدولة المصرية بالبحر الأحمر هى عناية استراتيجية طويلة المدى لم تتوقف أبدًا ولا أظن أنها سوف تتوقف مهما دامت التهديدات والمخاطر تحيط بهذه المنطقة الحيوية التى تمثل جسرًا للبقاء بين قارتين من قارات العالم القديم.
ولقد نشطت فى السنوات الأخيرة كتابات عديدة تشير إلى أهمية المستقبل الاستراتيجى للبحر الأحمر وإمكانية تحوله إلى بؤرة صراع بين بعض دول شرق إفريقيا وبعض دول الطرف الشمالى له بسبب أمور تتصل بالصراع على المياه ومنافذ التجارة خصوصًا أن بعض دول شرق إفريقيا مغلقة لا تملك موانئ على البحار بما يجعلها دائمًا فى خلاف مع جيرانها وترقب للتحركات السياسية والعسكرية للدول الأكبر فى المنطقة.
ثالثًا: إن مصر والسودان توليان أهمية كبيرة للبحر الأحمر الذى كان دائمًا جسرًا للتواصل البحرى موازيًا للتواصل النهرى بين القطرين الشقيقين ويكون من صالحهما المشترك هو ألا تسيطر قوة معينة على ذلك البحر مهما تكن الظروف والتحديات خصوصًا أن مصر تملك واحدًا من أكبر أساطيل المنطقة على الإطلاق ولقواتها البحرية دراية واسعة بالملاحة العسكرية فى ذلك البحر لا تقل عن درايتها بالملاحة العسكرية أيضًا فى البحر المتوسط.
ولابد أن يتذكر المصريون أن البحرية المصرية لم تخذله أبدًا عبر تاريخها منذ أيام محمد على حتى الآن ولكن مصر دولة تكرس إمكاناتها وتضع قواتها بحرية وجوية وبرية لخدمة الأشقاء والأصدقاء ما داموا على حق، فمصر تاريخيًا كيان عاقل بالضرورة لا يندفع بلا مبرر ولا يشتبك إلا إذا فرض عليه القتال، لذلك فإن البحر الأحمر يظل مصدرًا للأمن القومى المصرى ومبررًا لقوة عربية إفريقية ونموذجًا للتعاون المشترك إذا خلصت النوايا وصدقت الوعود.
رابعًا: إن موانئ البحر الأحمر التى كانت من قبل مسارًا وحيدًا للحج الإسلامى قد جعلت منه بحرًا يحمل طابع القداسة والتوقير لدى المسلمين حيث ارتبطت الأذهان بمسارات الحجيج عبر القرون، ورغم اختراع الطيران فإن قيمة الملاحة البحرية فيه لا تزال مؤثرة وفاعلة إلى حد كبير.
خامسًا: إن محاولات التطوير الإيجابى والعمرانى بالدولة السعودية والتى تقابلها محاولات مماثلة فى أنحاء الدولة المصرية لا بد أن تجعل من البحر الأحمر بحيرة آمنة مفتوحة للسياحة وللتواصل الحضارى وليست مكانًا للاشتباكات والحروب، فالأصل فى البحار أنها نقاط التقاء وجسور اتصال وليست أبدًا حواجز أو موانع يهدد بها طرف طرفًا آخر عربيًا كان أو إفريقيًا.
إن البحر الأحمر فى نظرى له مكانة استراتيجية كبرى ومكانة دينية معروفة فضلًا عن أنه يشق قلب العالم العربى من طرفيه الآسيوى والإفريقى، حيث تقف مصر رابضة على الزاوية الشمالية الشرقية للقارة الإفريقية وكأنها ديدبان العصور، وحارس الحضارات، وحاضن الديانات والثقافات منذ فجر التاريخ.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/819666.aspx