رحل حمدى الكنيسى بعد حياة حافلة بالآمال والأحلام والطموحات شاهد خلالها الحروب وعاصر السياسات وارتبط اسمه بالحرب الظافرة عام 1973، وشاءت أقدار عملى الدبلوماسى أن ألتقيه فى العاصمة الهندية ونقضى معًا ما يزيد على عامين، كان هو خلالها المستشار الإعلامى للسفارة المصرية حيث أعمل، حتى أصبحنا صديقين لا مجرد زميلين، وأعجبتنى فيه خصاله الحميدة وصفاته الطيبة ووطنيته الصادقة.
وكثيرًا ما استمعت إليه متحدثًا عن عمله مع القوات المسلحة مراسلًا حربيًا متميزًا يغطى المعارك وينشر الحقائق ويبشر بالأمل، وانخرطنا معًا نعيش التجربة الهندية العريقة بخصائصها الفريدة وتنوعها المتميز وتعدد أبعادها واختلاف آفاقها، فالهند دولة ضخمة ذات تاريخ عريق، إنها بحق متحف للزمان والمكان، كل ما فيها يستدعى الدراسة، بل يُغرى بالتأمل، فطبقات المجتمع تخضع لمعايير تاريخية تخلق حالة من الرضا لدى كل فئة تجعلها قانعة بما هى فيه لا تتطلع إلى ما تملكه غيرها.
فالهندى قدَرى بطبعه مؤمنٌ بتناسخ الأرواح وإمكانية تعويضه عن معاناته فى الحياة الأخرى، ولقد انشغلنا- الكنيسى وأنا- كثيرًا بالثقافة الهندية أدبًا وفنًا وسلوكًا فى الحياة وتفسيرًا للظواهر، وعند حدود الهند شرقًا تتوقف لغة التفاهم السهل بيننا وبين الشعوب الأخرى فى منطقة الهند الصينية، حيث تبرز بعد ذلك الخصائص الصينية طاغية على الشخصية الهندية كلما اقتربنا من بكين وابتعدنا عن نيودلهى، وقد لاحظت أن صديقى الراحل كان حريصًا على التواصل بوسائل الإعلام، فى بلد تتعدد فيه الصحف والمحطات الإذاعية والمنصات التليفزيونية، فالهند دولة ديمقراطية مفتوحة تحترم التعايش بين الثقافات والاختلاف فى الآراء والتباين فى الرؤى، وكنّا نقارن دائمًا بين ما نشهده فى الهند وما تركناه فى بلادنا، خصوصًا أن المكتب الإعلامى المصرى فى ذلك الوقت كان له ثقله واحترامه.
حيث تولت رئاسته شخصياتٌ مرموقة، أتذكر منها الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور والإعلامى المعروف أحمد الأبراشى، ذلك أن لمصر رصيدًا كبيرًا لدى الهنود يمتد من أيام علاقة سعد زغلول ومصطفى النحاس بالمهاتما غاندى وجواهر لال نهرو وصولًا إلى العلاقة الوثيقة التى ربطت مصر الناصرية بالدولة الهندية فى ظل حركة عدم الانحياز التى شاركت الدولتان فى تأسيسها مع يوغوسلافيا تيتو فى ستينيات القرن الماضى، والهند شبه قارة مترامية الأطراف متنوعة المواقع تتيح لمَن يهتم بها أن ينهل من زادٍ ثقافى له طابع خاص ومذاق فريد، وما أكثر مسامرات ليل الهند- إذا اعتدل الجو- حيث يسعدنى صديقى الذى رحل ببعض ذكرياته فى العمل الإذاعى، فضلًا عن تجاربه مراسلًا حربيًا يتعرض للمخاطر من أجل نقل صورةٍ صادقة عن سير المعارك فى ظل أجواء الحروب، ثم شاءت الأقدار أن ألتقى بأخى حمدى الكنيسى من خلال عضويتنا معًا فى مجلس الشعب، وهو البرلمان المصرى حينذاك، فتجددت روابط الصداقة وتواصلت أسباب المحبة، وقد مرت بنا التجارب وعركتنا السنون وبدأ الأستاذ الكنيسى فى تبنى مشروعه الوطنى للإعلام هو وكوكبة من رفاقه وتلاميذه ساعين لإنشاء نقابة للإعلاميين أسوة بغيرهم من قطاعات المجتمع وفئاته العاملة، وظل يتحفنا فى المناسبات المختلفة بالمزيد من ذكرياته وتسجيلاته وكأنما يبث الروح الوطنية من جديد ويبعث فينا الأمل بالنصر الدائم والاستقرار الذى لا يغيب.
ثم شاءت الأقدار أن ينسحب ذلك الإعلامى الجسور من الميدان رافعًا رايات الوطن مؤمنًا بمصر التى عاش تحت لوائها مدافعًا بالكلمة الصادقة عن شرفها ومعبرًا عن كبريائها، وكنت ألاحظ فى السنوات الأخيرة تدهور صحته ولكن عقله المُتَّقد ورؤيته اليقظة كانا يشيران دائمًا إلى المعدن الأصيل فى شخص حمدى الكنيسى حتى بعد رحيل رفيقة حياته، حيث ظلت بناته الثلاث مصادر ضوءٍ تشع فى سنواته الأخيرة. رحم الله المراسل الحربى الذى نتذكره فى أعياد أكتوبر مقترنًا بالنصر، ومتحدثًا دائمًا عن أمجاد الجيش المصرى صاحب التاريخ الطويل، وابن الشعب الذى يجسد إرادته ويعبر عن روحه العريقة ورؤيته العميقة.. رحم الله حمدى الكنيسى وطنيًا مخلصًا وصديقًا عزيزًا.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2412591