ذات صباح كان فيه الرئيس الأسبق «مبارك» فى مدينة «أسوان» لإجراء بعض المُقابلات الرسمية، وكنتُ فى القاهرة لإتمام بعض التكليفات المتصلة بعملى، وعلمنا أن شابًّا صغيرًا قد حاول اقتحام بوَّابة منزل الرئيس بـ«مصر الجديدة» فاصطدمت سيارته بها، وخرج من سيارته رافعًا يديه، فأمطره الحُرَّاس بوابل من الرصاص أرداه قتيلاً فى الحال؛ لأنهم ظنوه إرهابيًّا، أو يحمل قنبلةً مُدمِّرةً، أو حزامًا ناسفًا؛ إذ إن ذلك التَّصرُّف كان غريبًا ومُفاجئًا.
والقصة أن هذا الفتى كان ابنًا لأحد المستشارين الكبار فى السلك القضائى، واختلف مع أهله بسبب بسيط، فقال لهم سوف أُسبِّب لكم مُصيبةً اليوم، وخرج مُسرعًا، وركب سيارته، وقام بفعلته، ولم يكن يُدرك -بحُكم سِنِّه وخبرته- أنه مُقدِم على عمل خطير قد يُكلِّفه حياته، وظنَّ أن الأمر سوف ينتهي عند مُساءلته، والتحقيق معه هو وأسرته بشكل يُزعجهم فقط، ولكن دون تداعيات كبيرة.
وعندما علم الرئيس بما جرى أراد أن يتحرَّى عن ذلك التَّصرُّف الغريب، فطلب من رئيس الوزراء «د.عاطف صدقى»، ووزير الإعلام «صفوت الشريف»، ووزير الداخلية «محمد عبدالحليم موسى» الحضور إلى مبنى سكرتارية الرئيس فى «منشية البكرى» ليتحدَّثوا معه تليفونيًّا من مكاتب الرئاسة بعيدًا عن أى مُؤثِّرات أو مُحاولات للتَّنصُّت، وبالفعل تحدَّث مع الثلاثة، وأدرك أن الأمر لا يعدو أن يكون تصرُّفًا فرديًّا طائشًا، ولكن ليست له خلفية سياسية، وقد ذكر الرئيس فى نهاية المُكالمات بأننا لا يجب أن نُعطى الأمر أكثر من حقِّه، بينما أبدى أسفه لمقتل ذلك الشاب الصغير.
وقد تدخَّل وزير العدل بعد ذلك «فاروق سيف النصر» لإرسال المستشار والد الفتى ووالدته لأداء العُمرة لإخراجهما من المأساة وتثبيت إيمانهما بما قدَّره الله، وأدَّى إلى فقدانهما فلذة كبدهما، ولقد ذهب المستشار بعد عودته من العُمرة إلى قصر عابدين، وسجَّل كلماتٍ رقيقةً تحيةً للرئيس، ثم اتَّصل بى يطلب إبلاغ الرئيس اعتذاره؛ لأنه لم يُحسن تربية ابنه بما أدَّى به إلى هذا العمل الانتقامى الطائش!
وقد كان أمرًا مُحزنًا أن يجمع الرجل بين لوعة الفراق ومرارة الاعتذار، وفى لقاء لى مع قائد الحرس الجمهورى بعد ذلك بأيام قُلتُ له: هل كان من الممكن تلافى قتل الفتى بعد استسلامه؟ فأجاب: إن ذلك كان مُستحيلاً؛ لأن الاقتحام المُفاجئ لا يُمكن السيطرة عليه، كما أن رفع يديه استسلامًا لا يُعبِّر بالضرورة عن سلامة نواياه، أو براءة مقصده؛ فقد يكون تصرُّفًا مُتعمَّدًا لاستكمال عملية إرهابية، ثم أردف قائد الحرس الجمهورى صارم الشخصية بأنه: لو لم يُطلق الحُرَّاس عليه الرصاص لكان هناك قصاص منهم يصل إلى عقوبة الإعدام لمن يتقاعس أمام مثل هذا الموقف المُفاجئ؛ فمهمة الحرس الجمهورى هى الحفاظ على حياة الرئيس وأسرته، وسلامة منزله.
ولقد ظلَّت تلك الحادثة تُؤرِّقنى دائمًا وتجعلنى أدهش للدافع الطفولى الذى أدَّى بذلك الصبى إلى مثل ذلك التَّصرُّف، ولم أجد تفسيرًا إلا طيش الشباب، وقلَّة الخبرة التى دفعت ذلك الفتى فى مُستهلِّ حياته ليقوم بمُغامرة صبيانية يدفع حياته ثمنًا لها، وتذكَّرتُ ذلك الحادث عندما قرأتُ أن الشرطة البريطانية اشتبهت فى مواطن من أصل أفريقى على رصيف أحد القطارات، وتقدَّمت منه، ووجَّهت إليه سلاحها، فرفع يديه مُستسلمًا، فأمطروه بوابل من الرصاص وأردوه قتيلاً، وعندما تساءل الناس: لماذا قتلتموه وقد استسلم لكم؟! فقالوا: ربما كان يحمل حزامًا ناسفًا أو قنبلةً ينتوى بها تفجير المكان، وهي حُجَّة واهية؛ لأن الاشتباه لم يكن مؤكدًا، كما أنه ليس لدينا ما يُجزم بأنه قد أقدم على فعل يمثل خطرًا على حياة الناس، ومازالت كلمات ذلك المستشار القضائى المصرى والد الفتى الذى راح ضحية رعونته تمرُّ بخاطرى من حين إلى آخر، وأشعر بالأسى وألتمس من الله تفسيرًا لما حدث.
هذه قصة حقيقية تكشف حساسية الجهاز الأمنى الذى يُحيط بكبار المسئولين، والرغبة العارمة فى توسيع دائرة الاشتباه والأخذ بالأحوط، ولو كان ذلك ثمنه أرواحًا تُزهق أو أعمارًا تُقصف، فسلامة المسئول الكبير لا تُقدَّر بثمن، ولا ينظر المحيطون به إلى شىءٍ من ذلك؛ فالمهم دائمًا هو الحفاظ على حياة الزعيم وروح القائد وسلامة الرئيس!
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 273
تاريخ النشر: 10 ابريل 2018
رابط المقال: https://www.7-ayam.com/%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%85%d8%a7-%d8%ad%d8%a7%d9%88%d9%84-%d8%b4%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%ad%d8%a7%d9%85-%d8%a8%d9%8a%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%a6%d9%8a%d8%b3/