بي ضعف تجاه «الشام الكبير» وشعور خاص نحو سورية باعتبارها المعقل الأول للخلافة العربية الإسلامية على يد «بني أمية» ولقد أصاب «أمير الشعراء» عندما قال (وعز الشرق أوله دمشق)، كما أن فنون الحياة في منطقة سورية الكبرى تستهويني، فأنا من جيل مصري تفتح وعيه على قيام الوحدة وميلاد «الجمهورية العربية المتحدة» عام 1958. وقيل لنا يومها إنها ليست المرة الأولى التي يتحد فيها الشعبان المصري والسوري تحت حكم واحد وإن آخر مرة حدث فيها ذلك من قبل كانت في الفترة من 1831 إلى 1840 في أخريات عصر محمد علي وابنه القائد إبراهيم، ومن منا في العالم العربي لا يدرك أن العروبة، التي هي بنت الجزيرة العربية، قد ترعرعت وازدهرت وتبلورت على أرض «الشام» ويكفي أن نتذكر أن الحركة القومية برمتها شامية النشأة سورية الرعاية ولدت في أحضان المهجر أحياناً والوطن الأم أحياناً أخرى، بل إن المصريين يعترفون بأن تطور الصحافة والمسرح والسينما كان دائماً بمشاركات «شامية» من الرواد الأوائل في الأدب والشعر والفن. تلك هي مشاعري تجاه سورية ذلك القطر الأبي العزيز. أقول ذلك وقد دارت الأيام ورأيت بعيني متسولاً في أحد شوارع القاهرة يتحدث بلهجته السورية ويشير إلى حال الهوان التي يتعرض لها هو وغيره من اللاجئين في دول الجوار العربي لبلده الجريح الذي كان عصيَّاً على غيره منيعاً أمام الانهيار، فإذا الأيام تأتي بغير ما توقع الجميع ويتحول المشهد السوري الدموي إلى كارثة قومية مروعة ومأساة عربية جديدة. إنني أقول ذلك وأنا أطرح الملاحظات الآتية:
أولاً: إن منظر المتسول السوري في أحد شوارع القاهرة لن يفارق خيالي مدى عمري لأن الشعب السوري العريق يحمل على كاهله كبرياء وعزة جاءتاه من توالي العصور والأحقاب وتعاقب الديانات والحضارات والآن يؤول أمره إلى ما هو عليه في الشتات. إنه أمر مؤلم وفاجع لذلك، فإن المأساة السورية في نظري ذات بعد إنساني وبعد قومي في الوقت ذاته، ونحن في مصر وفي غيرها من أقطار العرب، على رغم كل ظروفنا الصعبة وأحوالنا المتدهورة، ندرك أن الجرح السوري أكبر بكثير من ظاهره وأنه جزء لا يتجزأ من عملية صوغ مستقبل مختلف للمنطقة كلها فكما أن عز الشرق أوله دمشق فإن مأساة الشرق يمكن أن تبدأ أيضاً بدمشق!
ثانياً: لقد دعا المبعوث الأممي والعربي للأزمة السورية الأخضر الإبراهيمي مجموعة من المثقفين العرب الموجودين في القاهرة عند بداية مهمته ليستطلع آراءهم في تلك المهمة التي كانت تبدو له ولنا شبه مستحيلة. وعندما جاء دوري في الحديث فإنني عبرت عن خشيتي من أن تكون نهاية الأزمة السورية درامية بالضرورة لأنه لم يكن يلوح في الأفق احتمال ظهور مخرج لتلك الأزمة المركبة والتي لطختها دماء مئات الألوف من الضحايا على الجانبين من مختلف فئات الشعب السوري الباسل وطوائفه. وكان الأخضر الإبراهيمي يسعى بعزم وإصرار نحو تهدئة الوضع السوري ولو نسبياً كمقدمة تكفل إمكانية حل ذلك الصراع الدموي الأليم، وأتذكر أن الكثيرين من الخبراء الذين حضروا ذلك اللقاء قد تحدثوا كثيراً عن الوضع الدولي والظروف الإقليمية والتشابك الواضح بينهما في جانب وبين أطراف الأزمة في جانب آخر، وبدا لي يومها أن كل ما قيل صحيح ولكن الحل - إذا كان ممكناً - لا يبدو قريباً بل وأصابني هاجس من اليأس يحدثني عن أن سورية المستقرة الموحدة قد لا تعود!
ثالثاً: إن جوهر المأساة هو أن كثيراً من الدول والتنظيمات المسلحة على امتداد خريطة العالمين العربي والإسلامي قد أصبح طرفاً مقاتلاً فوق الأرض السورية ولم تعد المشكلة سورية فقط ولكنها تجاوزت ذلك إلى ما هو أكبر وأخطر، فدخلت مرحلة التدويل عندما استدعت أطراف فيها قوى خارجية أصبحت طرفاً لاعباً في ذلك الصراع الدموي العنيف الذي سيحدد مستقبل المنطقة برمتها، كما أن الأطراف الإقليمية وفي مقدمها إيران وبعض دول الخليج قد وجدت نفسها مدعوة بالضرورة إلى اقتحام الساحة السورية واللعب على أرضها في هذه الظروف الملتهبة والدموية.
رابعاً: إن «حزب الله» في لبنان الذي رفعنا له جميعاً قبعاتنا تحية وإجلالاً عام 2006 قد دخل المعركة السورية في شكل مباشر على نحو يجر وراءه الدولة اللبنانية ويجعل من دول الجوار العربي لسورية أطرافاً مشاركة بالرضا أو الرفض في ما يدور على الساحة من الناحيتين السياسية والعسكرية. فلقد أصبح الجميع شركاء في ميادين القتال بل لقد وقف الجميع ينظرون إلى ما يدور في سورية وكأنه مباراة في كرة القدم فالتعود على الدماء ومشاهد الأشلاء أضحى جزءاً من القاموس الإعلامي اليومي ولم يكن ذلك جديداً على العرب فقد عرفوه قبل ذلك في العراق وغيره، فأصبح المشهد المتكرر موحياً بالتعود الذي ينزع الإحساس بضرورة التغيير للخروج من المأزق الذي تورطنا فيه جميعاً، واللافت أن الجريمة السورية المأسوية تحدث الآن في ظل ظروف استثنائية على امتداد العالم العربي كله، فالوطن العربي حالياً ليس هو ذلك الذي عرفناه في العقود الماضية ويكفي هنا أن نتأمل الدور الإيراني في المنطقة ونجاحاته المرحلية عبر خطوات متتالية لتكريس وجوده ودعم حلفائه بل والبحث عن بدائل لهم عند اللزوم.
خامساً: إن إسرائيل، الرابح الأول في المنطقة كلها، تتابع ما يجري حولها في رضا وارتياح، فالجيش المصري شغلته الثورة الشعبية والبؤر الإجرامية في سيناء، والجيش السوري أنهكته المعارك واستنزفت جهده المواجهات على امتداد العامين الأخيرين، أما الجيش العراقي فقد خرج من المعادلة منذ أن دخلت القوات الأميركية أرض الرافدين، وبذلك لم يعد أمام إسرائيل جيشٌ قوي متفرغ لها بصورة تجعلها تخشاه فركزت جهدها على الدولة الإيرانية وبرنامجها النووي و «حزب الله» الذي تراه إسرائيل امتداداً لإيران، حتى أصبح واضحاً أن العقل الإسرائيلي يحرك جزءاً من خيوط اللعبة على ساحة الشرق الأوسط ويستثمر الأحداث لمصلحته في كل الظروف ويتطلع إلى حل الصراع العربي - الإسرائيلي على حساب أرض عربية جديدة في سيناء أو غيرها معتمداً على نظم وفدت إلى السلطة أخيراً ذات خلفية «أممية» إسلامية لا تؤمن بالحدود التقليدية للخريطة السياسية القائمة فهي تغلب منطوق «الأمة الإسلامية» على مفهوم «الدولة القومية» وهنا، يكمن الخطر الذي نراه غير بعيد.
سادساً: إن الموقف التركي المساند للثورة السورية منذ بدايتها هو نفسه الموقف الذي كان قريباً من الرئيس السوري بشار الأسد داعماً له في «شهر عسل» لم يدم طويلاً بين الدولتين الجارتين، وأظن أن الموقف التركي من الثورة السورية هو مقياس حرارة «ترمومتر» الموقف الغربي عموماً مع تسليمنا بحجم مشكلة اللاجئين السوريين في أقطار الجوار الأربعة (تركيا ولبنان والأردن والعراق)، وإن كانت القيادة السياسية للثورة موزعة بين القاهرة وأنقرة وبعض العواصم الغربية، وهو ما يعكس في مجمله حال التشرذم الثوري إن جاز التعبير في ما يتصل بخلفية الوجود السوري في دول الشتات والمعاناة التي تلاحقهم في كل مكان.
سابعاً: إنني ممن يظنون أن الدولة العبرية و «اللوبي» الصهيوني في أميركا والقيادات الصهيونية في العالم ليست مجمعة حتى الآن على رأي واحد تجاه ما يجري في سورية، وأنا أزعم هنا أن الخلاف ليس مع روسيا الاتحادية والصين وحدهما ولكن، هناك اختلافٌ أيضاً داخل الكتلة الغربية بل وبين المؤسسات اليهودية المؤثرة في القرار الأميركي حتى الآن.
هذه قراءة عامة لا تدخل في جوهر الصراع الدائر فوق الأراضي السورية بل وخارجها أيضاً وإنما تتجه فقط إلى الجانب الإنساني والقومي لمأساة اللاجئين السوريين، ونحن نتذكر أن اللجوء في التاريخ العربي الحديث ليس جديداً، فلدينا لاجئون فلسطينيون ولاجئون لبنانيون ولاجئون عراقيون وقد تلحق بهم دول عربية أخرى. فالمأساة تتكرر ويأتي كل يوم بجديد. ألم ينتقل الموقف المصري أخيراً من المطالبة بإسقاط النظام في دمشق إلى السعي للوساطة بين الأطراف بناءً على نصيحة إيرانية أو ما يزيد عن ذلك. إن وخز الضمير العربي سيظل يلاحقنا ما بقي لاجئ واحد يتسول في شوارع عاصمة عربية أخرى!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 4 يونيو 2013
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/433441/اللاجئون-السوريون-والضمير-العربي!