روج دعاة نظرية الاستعمار الخارجى للدول التى خضعت له عبر القرون لمقولاتٍ كاذبة وادعاءات ظالمة، فاعتبروا أن فلسفة الاستعمار هى عملية تحضير لشعوب متخلفة وأنهم يأخذون بيدها إلى آفاق التحضر ويشدونها نحو تقاليد العصر، وتلك أكذوبة كبرى وفرية واضحة لأن الاستعمار هو نوع من الاستغلال الفاضح لموارد الدول المغلوبة على أمرها، حيث تحالفت القوى الاستعمارية لمص دماء بعض الشعوب واستنزاف ثرواتها والعبث بمقدراتها، والذى يقرأ خطبة الوداع للورد كرومر وهو يترك مصر سوف يلمس مظاهر الصلف الاستعمارى والنزعة العنصرية التى تجعله يتحدث عن أن الاستعمار البريطانى جاء لإنقاذ مصر من التخلف والارتقاء بها وفقًا لتقاليد العصر ومتطلباته، ومن الواضح أن ذلك القول يعبر عن إحساس بالتسلط ودرجة عالية من الاستخفاف بالشعوب والرغبة فى النيل منها تحت كل الظروف، وإذا تأملنا مسيرة الظاهرة الاستعمارية وانتقالها بشكلٍ ملموس من دولة إلى أخرى بل ومن قارة إلى قارة فقد يحسن هنا أن نتأمل طبيعة الحياة الفكرية والسياسية لدى الدول الكبرى فى القارة الأوروبية، ففى عصر النهضة تميزت القارة بحالة وهج فنى وتقنى وضعها فى مقدمة عالم ذلك العصر، وتلتها بعد ذلك الثورة الصناعية الكبرى بحاجتها الشديدة إلى المواد الخام ورغبتها المطلقة فى السيطرة على الشعوب التى ادعت هى أنها جاءت لإنقاذها، وبعد ذلك ظهرت موجة الكشوف الجغرافية خصوصًا لدى الإسبان والبرتغال، وإذا اعتبرنا أن التعليم هو مفتاح التقدم فنحن ندرك أنه لا ينهض وحده سبيلاً للتحليق فى سماوات النهضة كما أنه لايكفى وحده لدعم التجارب التنموية التى تقدم عليها الشعوب فى فترات يقظتها رغم قدرتها على ذلك أحيانًا، وإذا كنا نناقش اليوم دعاوى الظاهرة الاستعمارية ونتعرض لآثار الكشوف الجغرافية منطلقين من عصر النهضة والثورة الصناعية فإننا نضع الظاهرة الاستعمارية فى مكانها الصحيح كنوع من العدوان التاريخى من دول كبيرة على شعوب صغيرة، لقد خضعت دول كبرى للوجود الاستعمارى ودفعت ثمنًا فادحًا لاستقلالها ولعل التجربة الهندية والمصرية والجزائرية نماذج واضحة لذلك، وقد يكون من المستحسن أن نطرح هنا الأسباب والملابسات التى ارتبطت بتلك الظاهرة وغيرت معالم المجتمع الدولى فى عصور مختلفة وتركت بصمات سلبية على العلاقات بين الدول مازالت آثارها باقية حتى الآن، وهنا نتحدث فى عجالة عن الكشوف الجغرافية والظاهرة الاستعمارية وارتباطهما بعصر النهضة والثورة الصناعية:
أولاً: عندما شعر العالم القديم بتراجع الإمكانات ونقص الموارد بدأ البحث عن الثروات من خلال الأرض الجديدة ولعب الإسبان والبرتغال دورًا أساسيًا فى ذلك فاتجهت الكشوف الجغرافية فى محاولة للوصول إلى الأرض الجديدة، وليس هنا مقام سرد أسباب ودوافع المخاطرة بعبور المحيط وصولاً إلى الهند من الناحية الأخرى، فكان اكتشاف العالم الجديد بمثابة نقلة نوعية لم يشهد لها أحد مثيلاً من قبل، فتغيرت تركيبة العالم واتسعت النظرة إلى خريطة الكوكب الذى نعيش فيه، وأتذكر حاليًا حوارى مع رئيس جمهورية البرتغال أثناء زيارتى لبلاده عام 2019 فعندما بدأ الحديث من جانبه عن مكتبة الإسكندرية وكنوزها – وهو بالمناسبة عالم وباحث له مكانته- قلت له فى إطار جو المرح الذى سيطر على لقائى معه فى مكتبه برئاسة الجمهورية فى لشبونة: سيدى الرئيس إننى على استعداد أن أقدم لكم ما تشاء، ولكن لى طلب بسيط وهو رغبة مكتبة الإسكندرية فى اقتناء بعض الخرائط الأصلية للكشوف الجغرافية! وضحكنا معًا واتفق بتواضعه الشديد على أن يزورنا فى الإسكندرية لنرى ماذا سوف نفعل، وهنا أحب أن أضيف أن مراكز القوى الدولية قد رفعت شبه جزيرة أيبيريا إلى المقدمة قبل أن ترفع الظاهرة الاستعمارية كلاً من بريطانيا وفرنسا إلى صدارة العالم الأوروبي.
ثانيًا: إن الاستعمار بكل طرقه وأساليبه كان ولايزال سبة فى جبين الدول المتقدمة وهى تبحث بنهمٍ شديد عن المواد الخام ومصادر الطاقة لدى غيرها من الدول المغلوبة على أمرها المقهورة فى أرضها، فكان الاستعمار بحق هو جريمة العصر الكبرى والكارثة العظمى التى حلت بالعلاقات الدولية فى القرون الثلاثة الماضية.
ثالثًا: إن الثورة الصناعية قد أسهمت هى الأخرى فى تغيير ملامح الخريطة السياسية للعالم فالصناعة هى قاطرة التقدم وهى الأم الشرعية للتكنولوجيا، حيث إن الارتباط بين التعليم والصناعة هو الأب الشرعى أيضًا للتكنولوجيا المعاصرة، ولا ننسى أن المجتمع الصناعى قد أفرز شبكة علاقات اجتماعية جديدة أدت إلى تطورات كبرى على الجانب الآخر والذى كان من أبرز ملامحه ميلاد الفكر الماركسى وظهور الدعاوى الاشتراكية نتيجة الصدام القائم بين العمال وأرباب العمل بحثًا عن فائض القيمة الذى يحصل عليه رب العمل ظلمًا من أفواه عماله المطحونين.
رابعًا: إن ازدهار عصر النهضة وظهور الأسماء الكبرى من فنانى ومفكرى ذلك العصر قد أدى إلى نقلةٍ نوعية كبيرة خصوصًا فى مجالات الأدب والفن، فقد كان عصر النهضة هو الرافد الثقافى الذى سيطر على الفضاء الأوروبى وفتح أبواب التعامل دون قيود أو شروط، خصوصًا أن الفن لغة عالمية وان احترامه يرفع صاحبه درجاتٍ أمام أقرانه وفى داخل مجتمعاته. هذه بعض الهموم التى نشأت عن الارتباط بين الظواهر الأوروبية الأربع الكبرى بدءًا من عصر النهضة، مرورًا بالثورة الصناعية والكشوف الجغرافية، وانتهاءً بالظاهرة الاستعمارية التى اختفت بمعناها التقليدى مع النصف الثانى من القرن العشرين وفى ظل أجواء الحرب الباردة حتى أصبحنا نؤمن بأن التقدم والعلم والرقى تأتى دفعة واحدة ولا تصل فرادى، وقد أدت المعاناة التى شعر بها المواطن الشرقى فى إفريقيا وآسيا إلى ترك رواسب عميقة لاتمحوها الأفكار الجديدة مثل العولمة وصراع الحضارات والحرب على الإرهاب إذ إنها تنبع من شجرة الاستعمار الغربى بكل فروعها.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/826208.aspx