كان من الكتب ذات الموقع الخاص فى التاريخ الثقافى لطفولتى ومستهل شبابى كتاب العلامة الدكتور أحمد زكى الذى كان أستاذًا مرموقًا للكيمياء العضوية فى كلية العلوم بجامعة القاهرة ثم عميدًا لها فضلًا عن رئاسته لتحرير أشهر مطبوعة ثقافية بعد أن توقفت المطبوعات المصرية الدورية عن الصدور، فلقد كان أحمد زكى هو رئيس تحرير مجلة العربى التى اكتسحت أمامها إصدارات كثيرة فى دول عربية حتى تولاها من بعده الكاتب المصرى الراحل أحمد بهاء الدين، ولقد كان الدكتور أحمد زكى بفكره المتوهج وعقليته الاستثنائية واحدًا من مصادر الإلهام فى حياتى ومازلت أقلب فى نظريته التى كان مطلعها (ليس كالنقص دليل على الكمال) فالقمر الرائع بنوره الساطع ووجهه الوضاء ليس كامل الاستدارة وتلك هى لمسة الجمال الحقيقى التى لا يدركها إلا فيلسوف عظيم بحجم ذلك المفكر الكبير، فقد تكون بعض العيوب فى المرأة مصدر جمالها وجاذبيتها، فالحوراء واللثغاء وغيرهما يمكن أن تكون تلك العيوب من عوامل الجمال لهن، فالجاذبية تسبق بكثير الجمال بمعناه الجامد، بل إن شكل الأسنان وإن لم تكن مستقيمة ونظرات العينين وإن لم تكن متوافقة قد تبدو هى وغيرها من العيوب الخلقية الطفيفة سببًا فى إظهار الجمال والتحريض على تذوقه، ولقد عكفت على بعض كتب علم الجمال خصوصًا للأستاذين الراحل الدكتور شاكر عبد الحميد الذى كان وزيرًا للثقافة ثم الأستاذ الدكتور سعيد توفيق الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة أطال الله فى عمره، فكلاهما كان صديقًا أعتز به وأنهل من علمه وألتهم صفحات كتبه وأرى فيما أقرأ لهما صدى لكتابات الراحل الكبير أستاذ الأجيال بحق د. أحمد زكى، وعندما أصدر كتابه (مع الله فى السماء) بدا العنوان جديدًا بل مستفزًا لبعض أصحاب العقول الضيقة، وأتذكر أنه يوم وفاة المفكر المصرى الكبير عباس محمود العقاد عام 1964 خطرت لى فكرة مقال قمت بصياغته وأنا طالب فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية واخترت له عنوان العقاد مع الله فى السماء، واتهمنى البعض بالزندقة وبالخروج على النص لأننى تصورت حوارًا بين العقاد وكبار الملائكة فى الملأ الأعلى بل فى الحضرة الإلهية، وأذكر أن أستاذى عبدالملك عودة عندما أطلعته على المقال نصحنى بعدم نشره وقال لى إن العقول ليست سواء وهناك من يرى فى أمر معين ما لا يراه غيره كما أن هناك من هم مغرمون بالاصطياد فى الماء العكر بل العوم فى الوحل ثم قال إنى أشفق عليك يا بنى أن تحرق بعض أوراقك فى سن مبكرة وأنا أتوقع لك مستقبلًا واعدًا، واستمعت إلى نصيحته وسحبت المقال من صحيفة الحائط فى كلية الاقتصاد قبل نشره احترامًا لنصيحة الأستاذ الأب الدكتور عبد الملك عودة رحمه الله، وقد عن لى مؤخرًا أن أقلب صفحات الكتب المحورية فى حياتى بدءًا من الأيام وعلى هامش السيرة لطه حسين مرورًا بعبقريات العقاد وكل ما كتب العبقرى توفيق الحكيم وفرفور الثقافة يوسف إدريس لكى أصل فى النهاية إلى كل كتابات المجددين والمحدثين فى تاريخنا الفكرى والدينى بداية من الإمام المجتهد محمد عبده مرورًا بكل من الدكتور محمد البهى وتلميذه الدكتور محمود زقزوق رحمهم الله جميعا لكى أجد أساتذة الفلسفة الإسلامية هم أقدر الناس على تذوق ما كتبه الدكتور أحمد زكى، بدءًا من الإمام الأكبر أحمد الطيب وصولًا إلى الأستاذ الدكتور محمد عثمان الخشت رغم ما بينهما من مساحة اختلاف عرف طريقه إلى العلن منذ عدة شهور وكأن جامعة القاهرة تشاكس أم الجامعات الكبرى وأعنى بها الأزهر الشريف، إننى أريد أن أسجل هنا أن المزيد من القراءة فى فصول الفكر والفلسفة أمور لا تبدو نظرية بحتة بل هى قريبة مما نحن فيه بل ما نتطلع إليه، فالتصوف والعشق الإلهى والدخول فى المراحل العليا من الطرح الروحى تستند فى مجملها إلى تقاليد فكرية أرستها مدارس الفلسفة الإسلامية على اختلاف أنواعها عبر تاريخنا كله واضعين فى الاعتبار أن كل مصادرة للفكر أو عدوان على حرية الرأى ليست من الإسلام فى شيء، ولنتذكر جميعًا محاكمة طه حسين فى عشرينيات القرن الماضى وكيف انتصر ذلك العبقرى الضرير لحرية الفكر واستنارة العقل مقاومًا تيارات عاتية وجماعات متطرفة تنفث سمومها فى كل زمان ومكان، وأنا أتذكر حواراتى مع الدكتور لويس عوض وكيف كانت رؤيته صائبة ونظرته عميقة رغم كل ما اعترى حياته من انتصارات وانكسارات ومن صعود وهبوط، لذلك تطل علينا الأفكار الاستثنائية والرؤى الفريدة لمفكر مصرى بحجم الدكتور أحمد زكى لكى نقول إن الرجل كان يبشر بفتوحات عقلية ومبادرات للاستنارة فى وقت سبق فيه بعض المستشرقين من غلاة المتحمسين للعقل العربى والمرأة العربية والمستقبل العربى .. رحم الله أحمد زكى وهو فى مقعد صدق عند مليك مقتدر، ونحن هنا على الأرض نتحاور ونثرثر ونخوض فيما يجب وما لا يجب، ولكن تبقى الكلمة فى النهاية تعبيرًا شريفًا عن مسيرة الإنسان على الأرض.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/831486.aspx