رحل عن عالمنا منذ فترة وجيزة واحد من أكثر سفراء المغرب لدى مصر شهرة وانتشارًا، وأعنى به السفير محمد الدوكالى الذى كان أحد نجوم المجتمع الدبلوماسي، محبوبًا من الجميع وكنت تراه نجمًا متألقًا فى المنتديات السياسية والحفلات الدبلوماسية، ولقد استمر سفيرًا فى مصر لعدة سنوات وترك وراءه تلاميذ يعترفون بفضله ويمضون على طريقه، وكانت المفارقة العجيبة هى أن العاهل المغربى الملك محمد السادس كان قد بدأ زيارته للقاهرة واللقاء مع الرئيس الراحل مبارك فى ظل مراسم بروتوكولية حاسمة ونظم صارمة اشتهر بها البلاط الملكى إلى عهدٍ قريب، وعندما وصل العاهل المغربى إلى البلاد صمم أن يقيم حفل عشاء فاخراً يدعو إليه كل السفراء العرب والأفارقة وكبار المسئولين المصريين وضباط القوات المسلحة والشرطة ورموز الفكر والفن والأدب فى مصر، وجرى الاتفاق يومها بين رجل السياحة المعروف عمرو بدر وهو مدير إحدى الشركات الكبرى فى هذا المجال الذى أوعز للدوكالى بحيلة يغطى بها عجزه عن تقديم الزوار إذ لم تمض على وجوده فى القاهرة إلا أيام قليلة، فكان يقف وراء الملك مباشرة وبينما الحاجب ينادى على اسم الضيف يتقدم الدوكالى ويهمس فى أذن العاهل المغربى بماسمعه من المسئول السياحى المصرى بتعريف موجز يتضمن أهمية هذا الضيف، وكانت تلك فكرة ذكية لأنها جعلت الدوكالى يعرف الكثير عن المصريين كما لم يعرفهم أحد، واشتهر الدوكالى بعد ذلك بخفة الظل والذكاء الحاد واللماحية السريعة، وكنّا مجموعة من الأصدقاء العرب والمصريين نلتقى كل مساء نتبادل الأخبار والنوادر ونقيم ما حولنا من أحداث. وقد ظل الدوكالى لسنواتٍ طويلة فى موقعه حتى كاد يكون مصريًا خصوصًا أنه خدم فى بلاد عربية وهى على ما أذكر سوريا ولبنان وربما ليبيا، ولابد أن الملك محمد السادس قد أعجب بسفيره الذى يعرف ذلك الكم الهائل من الضيوف المصريين بعد وصوله للقاهرة بعدة ساعات. وظلت هذه الواقعة مثار تندر بيننا وبين الدوكالى - رحمه الله - نرددها فى كل المناسبات خصوصًا فى أوساط مجموعة السفراء العرب الذين كانوا يحبون حديثه ويشعرون بالود الشديد فى التعامل معه، ولقد ربطتنى به شخصيًا صلة قوية لأنه كان يدرك طبيعة الشخصية المصرية جيدًا كما كان على وفاق معها وحب لها وهذه مسألة تبدو أحيانًا كالتفاعل الكيميائي، فمصر تضم شعبًا يتمتع بحيوية شديدة وتعامل راقٍ مع العربى والأجنبى على السواء, كما أن أهل شمال إفريقيا ينظرون لمصر نظرة خاصة تختلف عن نظرتهم للمشرق العربى وتتميز بالإيقاع الدافئ والعلاقات الوثيقة التى قد يكون منها وصول الفاطميين إلى مصر من بلادهم وقصص أبو زيد الهلالى القادم من تونس، فضلاً عن أسماء مثل عبد الكريم الخطابى وعبد العزيز جاويش وبيرم التونسى، بالإضافة إلى شيخ الأزهر الوحيد الذى لم يكن مصريًا وهو الإمام الخضر حسين رحمه الله باعتباره تونسيًا من أصول جزائرية، ونلاحظ دائمًا إجادة أشقائنا من بلاد المغرب العربى اللهجة المصرية إجادة تامة وواضحة، هذه بعض خواطر ألحت على وأنا أتذكر الصديق العزيز الذى غادرنا ثم رحل عن دنيانا وترك أثرًا كبيرًا فى نفوسنا، وبالمناسبة فإن مهنة السفير رسالة وليست وظيفة، إذ يستطيع أن يؤدى عمله فى ساعات معدودة ثم ينصرف عن واجباته إلى حياته الخاصة، بينما هناك من يرى أنه ممثل لدولته لابد أن يكون عنوانًا لامعًا لها وشخصية مؤثرة فى المجتمع الذى يعيش فيه، إننا لانزال نتذكر حتى الآن السفير المصرى فى بيروت عبد الحميد غالب - رحمه الله -، والسفير الأمريكى فى القاهرة فرانك ويزنر وسفير مصر فى لندن وباريس وموسكو محمد حافظ إسماعيل، لذلك نهج الدوكالى على نفس الطريق بالتوسع الثقافى والانتشار الاجتماعى والشعور بأن مصر وطنه الثانى بعد المغرب. ولقد عرفنا سفراء من المملكة المتحدة ومن المملكة العربية السعودية ومن السودان اندمجوا فى المجتمع المصرى وتركوا بصماتٍ قوية على فترات عملهم فى القاهرة، ولعل الكثيرين لايعرفون أن كوف دى مورفيل كان سفيرًا لفرنسا فى مصر عند قيام ثورة يوليو 1952 قبل أن يصبح واحدًا من ألمع رؤساء الحكومات الفرنسية، فالذين يقولون إن الدبلوماسية مهنة من لامهنة له واهمون تمامًا لأن الدبلوماسية ثقافة وحكمة، حصافة وفطنة، رؤية بعيدة ونظرة ثاقبة، وقدرة على التعامل مع المجتمعات المختلفة والتأقلم مع كل جديد، إنها مهنة أفقية تريد بصاحبها أن يجمع من كل بستان زهرة، وليس بالضرورة أن يكون متخصصًا فى فرع بذاته من فروع المعرفة.. رحم الله الدوكالى فقد أعاد تذكيرنا بما لاننسى ودفعنا إلى استدعاء الأسماء اللامعة فى تاريخ الدبلوماسية الأجنبية والعربية والمصرية، ولعل الكثيرين لايعرفون أن عزيز باشا المصرى أيضًا كان سفيرًا لبلاده فى موسكو. وكان الدكتور مراد غالب طبيبًا مرافقًا له وهو الذى أصبح هو الآخر سفيرًا فى موسكو قبل أن يكون وزيرًا للخارجية، ونتذكر أيضًا مدرسة الدبلوماسى المتمكن إسماعيل فهمى وتلاميذه وفى مقدمتهم عمرو موسى، كما لا ننسى أسماء مثل محمد حسن الزيات وأحمد ماهر السيد وعبدالرؤوف الريدى، ولايغيب عن ذاكرتنا رجل بحجم أسامة الباز الذى لم يعمل سفيرًا بالخارج ولكنه كان أستاذ علم التفاوض فى تاريخ الخارجية المصرية، كما نتذكر اسم جوزيف أبو خاطر سفير لبنان لدى عبدالناصر، وأمين هويدى سفيره فى العراق .. تحية للجميع، ورحمة لمن ذهب، وصحة وعافية لمن مازالوا أحياء.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/833177.aspx