حتى لايذهب ذهن القارئ بعيدًا فإننى أعنى بهذا العنوان فروع الجامعات الأصلية فى الدولة المصرية، وأشير تحديدًا إلى فرع جامعة القاهرة فى الخرطوم الذى كان قائمًا حتى سنوات مضت حين عصفت به التصرفات الأحادية المتهورة لعمر البشير الذى كان يحمل قدرًا كبيرًا من البغضاء تجاه مصر توءم السودان وشريكة التاريخ وامتداد الجغرافيا الذى يجب ألا يتطاول عليهما أحد، إذ إن ما جمعه الله لا يفرقه إنسان، وأما الجامعة الثانية التى أعنيها أيضًا فى هذا المقال فهى جامعة بيروت العربية التى ولدت فى عصر الرئيس عبد الناصر وكانت امتدادًا لجامعة الإسكندرية بزهوها وبهائها، وسوف نبدأ بما جرى فى السودان ثم نثنى بما حدث فى لبنان وأساليب مطاردة التعليم المصرى الذى كان هو الرائد والمعلم صاحب البصمة التاريخية وحامل شعلة التنوير:
أولاً: كانت جامعة القاهرة فرع الخرطوم امتدادًا للحب الأخوى العميق بين شطرى الوادى وتخرج فيها الكثيرون (سودانيين ومصريين) وظلت تستقبل الأساتذة من القاهرة فى تعاون وترحاب، ومازالت أسماء مثل الدكتور طلبة عويضة رحمه الله مثالاً لذلك التعاون والانتماء بين التعليم المصرى السودانى المشترك، وعندما قامت ثورة الإنقاذ عام 1989 حاول البشير ومن حوله مجموعة تحمل لمصر كراهية لامبرر لها تصفية الوجود المصرى فى السودان، فامتدت أياديهم الحمقاء إلى فرع جامعة القاهرة بالخرطوم ثم تجاوزوا ذلك إلى استراحات الرى المختلفة، وهى مبانٍ أثرية تحمل عبق تاريخ العلاقة الوثيقة بين البلدين تحت مظلة وحدة النيل المشتركة، وقد غاب عن البشير ورفاقه من الكارهين لمصر أن التعليم لاوطن ولا جنسية له، فالتعليم خدمة مطلقة كالخدمة الصحية لا ينظران إلى جنس أو لون أو عرق أو دين، وظل أبناء السودان على الوفاء الواضح للتعليم الذى تعودوا عليه عشرات السنين والذى يظل مزيجًا بين الرؤية المشتركة للشمال والجنوب، أما استراحات الرى فقد كنت أشعر بالأسى لما جرى لها، وقد زرت السودان فى ضيافة صديقى الذى كان سفيرًا لامعًا لنا فى الخرطوم وهو من أكبر خبراء شئون شرق إفريقيا وقد خدم فى نيروبى وأديس أبابا والخرطوم، وعندها تقرر استعادة مصر إحدى الاستراحات مقرًا جديدًا للبعثة المصرية فى تقارب مع القاهرة وشعور أن مهندسى الرأى خبراء شأنهم شأن أساتذة جامعة القاهرة فرع الخرطوم يخدمون وطنًا واحدًا وإن تعددت مواقعهم، وظلت الأمور تتأرجح بين الحكومتين السودانية والمصرية حتى استقر الأمر وأطاح الشعب السودانى بنظام كان يعادى لا مصر وحدها ولا مصلحة السودان بالدرجة الأولى ولكنه لم يكن مؤمنًا أيضًا بالعروبة أو الانتماء الإفريقى بقدر سقوطه فى براثن استخدام الإسلام السياسى لتضليل الجماهير والعبث بمشاعر البشر، ومعلوم أن الشعب السودانى شعبٌ أبى حر تعلو كرامته فوق كل شيء لذلك بدأ يستعيد عافيته ويمضى فى طريقه الصحيح.
ثانيًا: أما جامعة بيروت العربية فهى قصة أخرى إذ تخرج فيها عدد من الشخصيات العربية التى وصل بعضها إلى سدة الحكم منها أمير لدولة قطر ورئيس للحكومة اللبنانية وحشد كبير من أصحاب المقامات الرفيعة والأسماء الكبيرة على الساحة العربية، حتى بدأ صدام بين أصحاب الجامعة وهم أبناء عائلة لبنانية طيبة اختلفوا على الصلاحيات التى يتمتع بها رئيس الجامعة وكيفية ترشيحة وأساليب التعامل معه، وانحاز إلى الجانب اللبنانى الرئيس المصرى للجامعة حينذاك وكنت شخصيًا فى زيارة لبيروت وطلب منى التوسط لحل الأزمة وكنت على اتصال من هناك مع الدكتورة هند حنفى رئيسة جامعة الإسكندرية فى ذلك الوقت ووزير التعليم العالى حينذاك الدكتور معتز خورشيد على ما أذكر، وقد حاول الاثنان رأب الصدع وحل المشكلة بما يحقق رضا الطرفين ومنفعة البلدين، ومازال ذلك الفرع يواصل رسالته مع تغييرات هيكلية فى الإجراءات والصلاحيات، ولكن الذى يعنى مصر هو أن تظل نوافذ التعليم مفتوحة دون التطلع إلى مزيد من الصلاحيات أو الاستحواذ على تلك الفروع من الجامعات. وعلاقة مصر بلبنان علاقة ثقافية قديمة ومتصلة ووثيقة لايؤثر فيها تغيير ولا ينال منها تعديل، وقد أوفدت مصر بعثة طبية منذ سنوات أيضًا إلى بيروت عاصمة البلد الشقيق ومارس الأطباء المصريون دورًا إنسانيًا أخويًا رائعًا حتى إنها عندما أنهت دورها طالب الأشقاء بعودتها من جديد، فمصر لها رسالة وليس لها مآرب جانبية أو أهداف ذاتية.
.. هاتان قصتان لفرعى جامعة القاهرة فى الخرطوم وجامعة الإسكندرية فى بيروت أردت أن أقدمهما فى هذا التوقيت لكى أوضح أهمية التعليم الواحد فى صياغة الوعى العربى وتكريس الشعور القومى والارتقاء بمستوى العلاقة بين أطراف الأمة العربية بما يخدم المستقبل العربى الواعد، الذى لابد أن يعتمد على انصهار مقومات التعليم الذى يقوم على أسس واحدة دون حساسيات أو شكوك، وسوف تظل مصر رافعة رايات العلم وأعلام المعرفة، مرتبطة بأشقائها، مدركة لدورها، مؤمنة بالمصير المشترك لدول المنطقة.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/834909.aspx