ارتبطت وظيفتى الدبلوماسية سفيرًا لمصر فى العاصمة النمساوية بأن أكون مندوبًا مقيمًا لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى فيينا، وهى المنظمة التالية مباشرة للأهمية بعد مجلس الأمن، وذلك من وجهة النظر الغربية خصوصًا، وعندما تسلمت عملى هناك وجدت أننى سوف أخوض فى اليوم التالى انتخابات مجلس محافظى الوكالة لأن مصر فقدت مقعدها الذى كانت قد شغلته منذ ستينيات القرن الماضى بديلاً للنظام العنصرى فى جنوب إفريقيا، والذى لم يكن من حقه أن يشغل ذلك المقعد بسبب سياسة الفصل العنصرى وإيداع المناضل الإفريقى الكبير نيلسون مانديلا السجن لأكثر من سبعٍة وعشرين عامًا، وخضت الانتخابات فى اليوم التالى وفاز اسم مصر بمقعدٍ فى مجلس المحافظين لمدة سنتين، حيث نعود للانتخابات مرة ثانية بعد أن فقدنا المقعد الدائم الذى شغلناه لسنواتٍ طويلة بالمنطق القائل رب ضارة نافعة، ولكننا كنّا سعداء بسقوط النظام العنصرى وتحرير المناضل الكبير مانديلا الذى كانت تربطه بمصر روابط وثيقة حتى إن اعتقاله قد جرى فى وقتٍ يسبق أحد لقاءاته بالرئيس عبدالناصر بعدة أيام، فلقد كان الرجل يحمل لمصر الناصرية وللوزير محمد فايق حبًا وتقديرًا عميقين، وأريد أن أضع القارئ العربى هنا أمام علاقتنا المهمة بتلك المنظمة الدولية الفريدة التى كان يتولى إدارتها عند بداية تمثيلى لمصر فيها دبلوماسى سويدى هو د.هانز بليكس الذى كان وزيرًا لخارجية السويد، ثم قضى فى منصبه بالوكالة مدة تزيد على ستة عشر عامًا إلى أن خلفه الدبلوماسى المصرى الدكتور محمد البرادعى الذى أمضى فى هذا المنصب فترتين أو يزيد، ولابد أن أنوه هنا بالخبرة الفنية لعدد كبير من العلماء المصريين ذوى التاريخ الطويل مع الوكالة كمفتشين نوويين أو مسئولين كبار بها، فأتذكر السفير الراحل الدكتور محمد شاكر الذى كان مديرًا لمكتب الوكالة فى نيويورك وأسماء أخرى مثل الدكتور على الصعيدى الذى أصبح وزيرًا للكهرباء ثم الصناعة فى مصر، وأحمد أبو زهرة وإبراهيم العسيرى ويسرى أبو شادى، بل وسيدات مصريات شغلن أيضًا مواقع مهمة للجانب الفنى بتلك الوكالة قد لاتسعفنى الذاكرة بكل الأسماء، ولكن الذى أتذكره دائمًا أن مصر كانت تمثل ركنًا مهماً فى تلك المنظمة الدولية الحيوية ذات الخطورة الكبرى فى مسار العلاقات الدولية المعاصرة، وكنّا مشغولين وقتها بالبرامج النووية الهندية والباكستانية ثم الإيرانية، فضلاً عن الترسانة النووية لإسرائيل التى كانت ولاتزال تمثل الهاجس الأكبر للدول العربية، ولقد تركز عملى أنا وزملائى فى السفارة المصرية على الجانب المتعدد الأطراف فى وظيفتنا على اعتبار أن العلاقات المصرية النمساوية مستقرة بل وممتازة، ولكن العمل فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية والمنظمة الصناعية للدول النامية (اليونيدو) والمركز الأممى لمنع الجريمة ومكافحة المخدرات وغيرها من القضايا الاجتماعية جعل الأمم المتحدة تتخذ من العاصمة النمساوية مقرًا ثالثًا لها يغلب عليه الطابع الاجتماعى، باعتبار أن نيويورك هى مركز الثقل السياسى للأمم المتحدة، بينما جنيف هى مركز الثقل الاقتصادى لتلك المنظمة العالمية التى ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية وريثة لعصبة الأمم التى وُجدت فترة ما بين الحربين العالميتين، ولذلك كان الشاغل الأكبر لأعضاء السفارة المصرية فى فيينا هو التعامل مع هذه المجموعة لأهميتها الكبرى وتأثيرها الواضح فى الفضاء الدولى، ولقد تركزت جهودنا حول قضايا ثلاث هى منع الانتشار النووى، وقضايا المعونة الفنية، ثم المسائل المتصلة بالأمان النووى:
أولاً: إن منع الانتشار النووى هو قضية دولية فى المقام الأول، ولكنه قضية حيوية بالنسبة للدولة المصرية التى طالبت بإعلان منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، وفى مقدمتها السلاح النووى، وكان لنا اجتماع سنوى فى المؤتمر العام للوكالة فى شهر سبتمبر من كل عام، حيث توفد وزارة الخارجية بعض المتخصصين فى موضوعات نزع السلاح من أمثال السفيرين المرموقين نبيل فهمى ومحمود كارم وغيرهما من أساطين العمل الدبلوماسى المصرى لحضور المؤتمر والتفاوض إلى جانب المجموعة العربية لاستصدار القرار السنوى الذى يحمل الإدانة لإسرائيل بسبب امتناعها عن الانضمام لاتفاقية منع الانتشار واحتفاظها بأسلحة دمار تمثل خطرًا على الأمن والسلم الدوليين وتزيد الموقف فى الشرق الأوسط احتقانًا فى كل الظروف.
ثانيًا: استأثرت مسألة المعونة الفنية بجانب كبير من اهتمام مصر والمجموعة العربية عمومًا بل والدول النامية بغير استثناء على اعتبار أن الاستخدام السلمى للطاقة النووية هو أمر حيوى، سواء فى توليد الطاقة النظيفة من خلال المحطات النووية، فضلاً عن أمور مثل تحلية مياه البحر، والقضاء على ذباب الفاكهة واستثمار موارد البلاد بالتقنية الفنية الحديثة التى يتركز بعضها على البحوث النووية والاستخدامات العلمية السلمية للطاقة النووية، وقد أبلت مصر فى ذلك بلاءً حسنًا ولعبت دورًا متميزًا فى كل العصور. ثالثًا: كانت قضية الأمان النووى تطل دائمًا على الشعوب والحكومات التى كانت تشعر بالقلق نتيجة المخاوف الناجمة عن التفجيرات النووية أو الاحتفاظ بمفاعلاتٍ لاتتمتع بالشروط الصارمة للأمان النووى واحتمالات تسرب الإشعاع، وفى ذاكرة الجميع حادث تشيرنوبيل على اعتبار أن إدارة المنشآت النووية مازالت تحتاج إلى روابط حادة وإجراءات ليس فيها احتمال للإهمال أو العبث، ولقد كان ذلك الهاجس ولايزال مسيطرًا على الدول التى تمتلك برامج نووية متقدمة وجيرانها المباشرين، ونجد أن دولة مثل النمسا أخضعت شعبها لاستفتاء رفض فيه توليد الطاقة من مصادر نووية، بينما تستخدم دولة مثل فرنسا ثمانين بالمائة من مصادر الطاقة النووية.
.. إنها قصة الإنسان المعاصر مع جبروت الذرة والرعب الذى خلفته هيروشيما ونجازاكى.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/836652.aspx