لم أعرف فى سنوات عمرى أن سيطرت على البشرية حالة اكتئاب فردى وجماعى مثلما حدث فى العامين الأخيرين، فليست المسألة هى مجرد فيروس انتشر، أو وباء حل على الإنسان فى كل مكان، ولكن المفزع فى الأمر هو أنه قد حمل معه قدرًا كبيرًا من الحزن والغضب واليأس وافتقاد السعادة، فقد جرى التضييق على الجلسات، والحد من التجمعات، واختفاء السهرات، وأصبحت الحياة رمادية اللون بعد أن كانت تشع فيها البهجة ويمرق فوقها شعور متجدد بالرضا والارتياح، ولقد اكتشفت أننا قد فقدنا أصدقاء أعزاء وزملاء لا يغيبون عن الذاكرة مهما يطل الزمن، إننى أعرف على الأقل عشرات الأسماء أذكر منهم منصور الجمال، ورجاء الجداوى، وسمير غانم، ودلال عبد العزيز، ووائل الإبراشى، فضلًا عن مئات أخرى ممن نعرف أو لا نعرف، فلقد اكتسح الوباء أرجاء الدنيا بلا تفرقة بسبب الجنس أو اللون أو الدين أو سنوات العمر، ولقد شيعنا بالحزن العميق منذ أيام قليلة ابننا الغالى شادى عبد المنعم سعيد النجل البكر للمفكر للكبير والمحلل السياسى البارع، وشهدت لوعة الأب وهو يودع الابن إلى حيث لا يعود الناس، فمن الطبيعى مع فطرة الحياة أن يدفن الابن أباه أما أن يحدث العكس فذلك أمر شديد القسوة على النفس البشرية، ولكننا لا نستطيع لإرادة الله تغييرًا، خصوصًا أن الموت أحيانًا يبدو وكأنه يختار أفضل الجياد فى سباق الحياة، وقد يترك على الأوتاد شر ما خلق الله، فالموت بحق نقاد على كل كف يصطفى منها الأفضل، ولذلك أشعر أحيانًا بأن حالة من الاكتئاب تسيطر على الكثير من الأقارب والأصدقاء الذين يشعرون بأن الحياة لا ضمان لها وأن الخيط الرفيع بينها وبين الموت قد بدأ يؤرق الجميع، وبالمناسبة فإننى أدرك أن نشر روح التشاؤم والحديث الدائم عن شبح الموت هما أمران غير مرغوب فيهما لدى الأغلب الأعم من البشر لأن التفكير الدائم بهما يؤدى إلى الإحباط والشعور بالعدمية وغياب الأمل فى مستقبل الحياة، ولقد جاء فى الأثر أن (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا)، وهنا تكون لنا عدة ملاحظات:
أولًا: إن الإيمان يعطى من يملأ به قلبه ويغلف به وجدانه قدرًا كبيرًا من مضادات الاكتئاب التى تسمح لصاحبه بالتغلب على الأفكار الحزينة، أما من يفتقد الإيمان ولا يؤمن بقدره فى إطار حكمة الخالق فإنه يقع فريسة الهواجس والوساوس والأوهام، وتتحول حياته إلى جحيم حقيقى تقوده وثنية العقل وتسيطر عليه الأفكار المادية بعيدًا عن الروح التى تحمل بوارق الأمل ونسمات اليقين.
ثانيًا: مرت البشرية فى عصورها المختلفة لما هو أقسى وأفدح، وليتذكر المصريون ما جرى فى سنوات المحنة المستنصرية حين أكل الناس القطط والكلاب بل ولحوم البشر ونبشوا القبور فى مأساة مروعة عندما شح الماء وجفت الأرض واختفى الزرع ونفق الحيوان ومات الإنسان وظن الناس أنهم يبدأون رحلة يوم الحشر، بل لقد كانت بعض الجماعات من الجائعين تترصد شخصًا يمضى بمفرده قد يكون صديقًا أو قريبًا فيتجهون نحو صيده عنوة وقتله وطبخه وأكله، عندما نقرأ هذه الكلمات ندرك مساحة التقدم البشرى ومسافة التطور الذى عبرته الإنسانية فى القرون الأخيرة وعندئذ تبدو لنا الأحداث التى تمر بنا وكأنها طيف خيال أو حلم ليلة صيف، فالحزن سوف يمضى والداء سوف ينتهى والوباء لن يدوم لأن إرادة الحياة أقوى من كل شيء أمامها، فهى تحالف الأحياء أمام المخاطر وهى الصخرة التى تتحطم فوقها دوائر اليأس وعوامل الفناء.
ثالثًا: إن التكنولوجيا الحديثة والأبحاث الطبية المتقدمة تبدو هى الأخرى عاملًا مؤثرًا فى مسار البشرية خصوصًا فى العقود الأخيرة حيث يجود العقل البشرى بتجليات غير معهودة تجعل الحياة اليوم أفضل من الأمس وفى الغد أفضل من الاثنين معًا.
رابعًا: إننى أظن أن حياتنا قد تغيرت بالفعل فى بعضها إلى الأفضل مثل اختفاء القبلات والأحضان عند التحيات العادية والتى كانت قد انتشرت على نحو غير مسبوق لتنشر الأوبئة وتنقل الميكروبات وما أكثر ما حذرنا من ذلك النمط الوافد على الشخصية المصرية فى ظل هذا السياق الذى جعل الأمور نسبية أمامنا، فما كان مقبولًا فى الأمس أصبح مستهجنًا اليوم، ولذلك فإن الجائحة قد غيرت كثيرًا من المفاهيم وفرضت لغة جديدة لم تكن موجودة لدينا، صحيح أن الحياة الاجتماعية قد ضربت فى مقتل ولكن أظن أننا سوف نخرج من تلك التجربة الثقيلة بمفهوم جد مقبول ندرك معه أن الإنسان هو سيد الكون وخليفة الله فى الأرض.
خامسًا: إن المرحلة التى تمر بها البشرية تذكرنا بفترة عقب الحربين العالميتين الكبربين الأولى والثانية حيث كانت البشرية مثخنة بالجراح تنزف ألما ودمًا ودمعًا، وما هى إلا سنوات قليلة وقد استوت البشرية على عرش الحياة تمضى نحو آفاق عليا بعد أن تلفظ غبار التجربة وتتخلص من الطاقات السلبية التى شحنت بها، لن يخالجنى شك فى أن النسخة الجديدة من حياتنا سوف تكون أفضل من سابقاتها لأن التطور سنة الكون وفطرة الحياة والتى تمضى مع ناموس الوجود.
هذه خواطر نجترها بعد فترة صعبة عشناها ولم تر أجيالنا الحالية مثيلًا لها من قبل، لذلك فإننا ندرك أن الحياة هى الأبقى وأن الوجود مستمر رغم ضراوة التحديات وقسوة المعاناة، إلا أننا فى النهاية سوف نفرض إرادة الاستمرار ومنطق الدوام على الحياة والأحياء.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/841685.aspx