كنت قريبًا من الدبلوماسى المخضرم والسياسى البارز أسامة الباز لمدة تقترب من أربعين عامًا، سواء فى وزارة الخارجية أو مؤسسة الرئاسة، بل إن عملى فى بريطانيا ثم الهند اتسم بزيارات متتالية لذلك الأستاذ المتميز علمًا وخلقًا، وكنت كلما اقتربت منه أدركت أن لديه صفاتٍ نادرة وأساليب فريدة فى التفكير والتعبير والصياغة، ولقد بقيت قريبًا منه حتى اشتد عليه المرض فى سنواته الأخيرة وسط جحودٍ ملحوظ من بعض «حَمَلة المباخر» و«مرددى الأناشيد».
لقد اقترنت حياته التعليمية والمهنية طالبًا ووكيلًا للنيابة ودبلوماسيًا بعهود الرؤساء الثلاثة عبدالناصر والسادات ومبارك، وظل قدوة لى ولجيلى، نلتف حوله ونتعلم منه، ويشعر كل منّا أنه الصديق الأوحد له بسبب دماثة خُلقه وهدوئه وتوجيه النصيحة لمن يستحقها فى خصوصية ورُقى وأخوة، وكان ذلك اهتمامى به على صعيد العمل لأكثر من أربعة عقود.
وعلى الجانب الآخر، كان لى اهتمام بشخصية «أحمد حسنين باشا»، الشهير بدوره المتفرد فى الحياة السياسية المصرية فى العصر الملكى، والذى عمل فى بلاط الملكين أحمد فؤاد وفاروق الأول، وكان خبيرًا بدهاليز القصور وكواليس الحكم، وارتبطت حياته بالفترة القصيرة التى قضاها فاروق فى لندن حتى قطع دراسته وعاد إلى مصر عند وفاة والده، وكان أحمد حسنين هو النقيض لعزيز باشا المصرى فى إشرافهما على ولى العهد ثم الملك الشاب، وقد استطاع أحمد حسنين أن يحفر اسمه فى التاريخ، لا بسبب وظيفته المرموقة فقط، أو علاقته الملتبسة بالملكة الأم نازلى أرملة الملك فؤاد وقصة زواجه العرفى بها، ولكن لأسباب أخرى كان من أهمها أنه رحالة مرموق ارتاد الصحراء المصرية واكتشف واحاتٍ مغمورة وكان مغامرًا من طرازٍ فريد، أصدر عنه الكاتب الصحفى محمد السيد صالح كتابًا منذ سنوات قليلة حتى تعرف الأجيال الجديدة شيئًا عن ماضى الحياة الثقافية والسياسية فى مصر فى النصف الأول من القرن العشرين.
وقد شدنى النموذجان حسنين والباز عندما اكتشفت أوجه التشابه بينهما، فكلاهما ابنٌ لعالم أزهرى، وكلاهما درس فى الخارج.. أحمد حسنين فى بريطانيا وأسامة الباز فى الولايات المتحدة الأمريكية.. وكلاهما كان نحيلًا صغير الحجم، وكلاهما عمل فى بلاط القصر وأروقة الرئاسة، كلٌّ فى عهده، وآثر كلاهما أن يكون بعيدًا عن الأضواء زاهدًا فى المناصب، فلم يتول أحدهما وزارة معينة وإن ترأس أحمد حسنين الديوان الملكى وتولى أسامة الباز موقع مدير مكتب رئيس الجمهورية للشؤون السياسية منتدبًا من وزارة الخارجية.
وقد عاصرت الباز فى كل مواقعه بالخارجية وبالرئاسة، وكنت أعقد طوال الوقت مقارنة صامتة بين رجل العصر الملكى ورجل العصر الجمهورى، وأزداد يقينًا بالتشابه بينهما، فكما كان أحمد حسنين شغوفًا بالكشوف الجغرافية، كان أسامة الباز شغوفًا بالفنون والآداب عاشقًا للثقافة.. وأنا أكتب هذه السطور الآن حتى تدرك الأجيال الجديدة أن فى ماضيها ما يدعو إلى الاحترام، وأن هناك نماذج لم تُكتب لها شهرة الزعماء الكبار ولكنهم لم يكونوا صغارًا فى الفكر والأسلوب ومناهج الحياة، وها هما نموذجان يستحقان الحماس البحثى والدراسة الأكاديمية.. فكما كان أحمد حسنين هو بطل تسوية حادث فبراير 1942، فإن أسامة الباز كان هو عرّاب العلاقات المصرية العربية وبلسم جراحها، كما كان هو الخبير الكبير للعلاقات بين القاهرة وواشنطن. وقد قال لى رحمه الله فى لحظة صفاء وهدوء وكان عائدًا من دمشق: إن الرئيس حافظ الأسد سأله لماذا يا أسامة لم تقبل منصب وزير الخارجية؟ فرد عليه الباز قائلًا: حتى أكون قريبًا من الرئيس فذلك أفضل وأكثر تأثيرًا، ثم أردف قائلًا لى: لقد خجلت أن أقول له إن المنصب لم يُعرض علىّ أبدًا!. فهناك حقيقة لا يعرفها الكثيرون، وهى أن الملوك والرؤساء يعتبرون القرب منهم شرفًا وميزة لا يحتاج صاحبها إلى مناصب إضافية أو مواقع أخرى. وأنا أطالب الباحثين فى تاريخ مصر الحديث بمزيد من التنقيب فى حياة النماذج الفريدة من أمثال حسنين والباز، اللذين تركا بصمة واضحة فى العصرين الملكى والجمهورى.. رحمهما الله.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2527204